
د. توتا صلاح مبارك
#ملف_الهدف_الثقافي
خالد كامل، ذهبتَ باكرًا أيها الرجل الودود، تشيعك ابتسامتك الكبيرة وقلبك الأكبر!! و… حُبُّنا وحلمٌ برطنٍ أخضر فنام بسلام عند “السلام” بعيدًا عن حرب اللئام
(خالد كامل… وجدارية ما بعد منتصف الليل)
كان نهارًا عابسًا كَسَته شمس حارقة صحبتها ريح مُثْقَلة بحبيبات تراب لتشكل سيمفونية لقسوة الطبيعة، التي لم تلطفها إلا ابتسامة أمي وأنا أخطو إلى البيت عائدة من عملي بالمستشفى بعد يوم كان يئن رهقًا وثِقَلًا. تعددت ساحاتي وتباينت لتتجاوز عبء التَعَلُم في فترة ما بعد التخرج كطبيبة، لتحتضن همومًا أُخَر.
زماننا كان ملتهبًا، محتقنًا… فقد رُهِقْنا بطاغية ناءت به خاصرة الوطن، التي لم تَفْتَأ تُعْتَصر بِوَأد لديمقراطية مُتَعَثِرة قبل أن تشق عن الطوق، وبِجَوْر ثلة عسكرٍ يحركهم حلم لسلطة، وشهوة لحكم، وتَوَهُمٍ بِفَرْدة وتفوق. مستشفى الخرطوم، كما كان بقعة مداواة وتشافي لقاصدي العلاج، كان لنا بذات السانحة ساحة محتدمة لنقاش فكري وسياسي في هَم وطن خُلِق في كَبَد. ولم نكن نملك إلا أن نحلم بثورة تعيد نَظْمَ الأشياء ورصها في وطن محزون مغبون. كنا نعيش هذا الحلم، نتنفسه شوقًا، بل كان خبزنا اليومي الذي نقتات.
عندما تَجَمَع والدي وإخوتي لتناول وجبة الغداء، لم أجد بنفسي مَيْلًا لمشاركتهم، فَنَأيْت ركنًا قصيًا. والدي جَهِد أن يخوض معي تفاصيل يومي ولم ينس أن يُلَمِح أنه لا بد من الحذر إذ أننا نعيش عاهة الظلم والظلام والتظليم. اجتاحتني موجة من الانقباض منذ أن أسَرٌ اليَّ أخي الأصغر بذاك الحديث. فكرت لنفسي أني كنتُ أكثر اطمئنانًا في المرة التي سبقت حين انساب كل شيء برفق وسلاسة. ذهني كان مشتتًا، نائيًا، مُستعصيًا على الثبات وأنا أحاول قراءة واستذكار ما كلفني به أستاذي الفخيم “مستر عصام العجيل”. كنت لا أنفك أُصَوِّب نظري إلى الساعة بين آونة وأخرى، وكأني بها قد هزمها الزمان فهَرِمَت وغدت بطيئة الخطوات، متثاقلة.
قررت أن أهجر “التلفزيون” الذي لجأت إليه لِأُغالِب تباطؤ الزمن، حيث لا حديث إلا عن ذاك الطاغية الذي تحول من “قائد ملهم” إلى “إمام للمسلمين”، وها هو يَفْجَع الوطن بـ”قوانين سبتمبر” التي أبانت قِصَر فهم مَن وضعوها، ومَن طبقوها ونفذوها، وكَشَفَت قصورًا فادحًا لِتَفَهُم قضايا المجتمع والجريمة. ثم بركان التجريم والقهر لكل مَن يعارضها. فنحن في “دولة قمعستان” حيث:
التراب يكره البذور
وحيث كل طائر يخاف بقية الطيور
وصاحب القرار يحتاج إلى قرار
هذا الطاغية اخترق الوطن، وانسرب فيه كما المرض الخبيث، ولا مناص.
تأملات ليلية وصيحات في وجه الظلم
أخيرًا حان المساء بكل طقوسه التي كانت تُزَيِنها ثَوابِت “أبي” في الاستماع لنشرات الأخبار من “مونتي كارلو” و “البي بي سي”، ثم ورده اليومي من تلاوة المصحف، وكوب حليب يتناوله قبل أن يأوي إلى سريره، الذي تنسدل فوقه ملاءة بيضاء من غير سوء. ابتسمت أمي بحب وفخر يَتَبَدبان في صوتها وملامح وجهها البهي وهي تقول إنه كان ذلك دأبها منذ أن بدأت تقاسمه رِفْقَة العمر أن تكون ملاءة السرير بيضاء كما يعشق. كانت عادة أبي أيضًا ألا يغفل التأكد أن باب البيت محكم الإغلاق قبيل أن يأوي إلى فراشه. لم يكن أحد ليجرؤ على الإخلال بقاعدة التواجد بالبيت قبل إغلاق الباب، ولم تَفْلُتْ من ذلك حتى القِلة المتمردة من أخوتي الذكور.
تبادلت كلمات قليلة، مُغْتَضَبة مع أخي الذي كان قد أتم لتوِهِ امتحان “الشهادة الثانوية”، حيث طَمْأَنني أن “كل شيء” قد رُتِب كما ينبغي له أن يكون. شقيقتي “نانا” التي كنا نقتسم معًا الحب والفساتين والغرفة، سألتني ببراءة: “لماذا تتقلبين في السرير هكذا؟”. أجبتها أن مرد ذلك كوب القهوة الذي على غير عادتي تناولته متأخرًا. لم أكن صادقة تمامًا إذ لم أكن أود البوح. ظللت أراقبها وهي تنساب ببطء في قارب النوم. كانت ملامحها جميلة، تتوسط وجهًا يشابه الملائكة، عيناها ليستا مغمضتين تمامًا، هكذا كانت دومًا تبدو عيناها عندما تنام. ضحكنا ذات مرة أنا وأختي الصغرى وتندرنا إذ أنها تنام شبه مفتوحة الأجفان، فانتهرتنا أمي قائلة: “سيبوا بتي السمحة، دا نوم الغزال”. لَحِظْتُ أن وجهها في تلك اللحظة كسته ظلال ابتسامة خجول، لعلها كانت تحلم بفارس على حصان أبيض؟ عندما بدأت أنفاسها تنساب بهدوء مموسق وانتظام بائن، أيقنت أنها أبحرت في لُجَج النوم العميق.
انسحبت بهدوء من سريري، وتركت الغرفة حافية القدمين، أسير على أطراف أصابعي متوجهة صوب غرفة أخي الذي كان بانتظاري. عيناه كانتا تشعان ما يخالط التَوَجُس والترقب… “انتظار المستحيل”. ولم يكن مستحيلًا. سار أخي بخفة وحذر كاتمًا انفاسه حتى لا يستيقظ أبي، تبعتُه وضربات قلبي تتسارع حتى خشيت أن تقفز خارج صدري وتوقظ أبي بدل أن تفعل ذلك خطواتي المُتَعَثِرة. حاول أخي فتح الباب بحرص، كان يتعمد التماسك رغم بعض ارتباك لا يَخْفَى وشيء مِن إحمرار يشوب وجهه. عندما انسحب خارجًا، قفلت الباب بهدوء وراءه وأنا أردد ما كانت تقوله أمي في لحظات الفراق: “وِداعة الله عند الرسول”.
تسللت بخفة عائدة إلى الغرفة أُمنِّي نفسي بنوم مستحيل. صِرْتُ أتَقَلَب في سريري أستجدي نومًا هاربًا، وأُصارِع سيولًا جارفة من الأفكار تكاد تغرقني. عندما بدأ النعاس يهزمني ويقذف بي إلى نوم خفيف متقطع، إذا بالتلفون، الذي كان يتوسط غرفة المعيشة، يرن عاليًا ويشق صمت الليل بلا رحمة. ارتعبت واجتاحتني موجة من الخوف جعلت حركتي مرتجفة متعثرة وأنا أركض لاختطف التلفون. وتحدث الطرف الآخر. سقطت سماعة التلفون من يدي، وسقطتُ أنا لِهُنَيِهَة كان لابد أن أقف بعدها وأتماسك. تمالكت نفسي وجررتُها جرًا. مشاعري كانت خليطًا من توَجُسٍ وقلق مبهم وتَخَوُفٍ من مجهول بدأ يلوح.
نهاية الليل وبداية الصباح
عندما وصلت إلى حيث كان سرير أبي ورأيته نائمًا في سلام، تَمَثَلْتُ الآية الكريمة: “يا ليتني متُ قَبْلَ هذا اليوم وكنت نسيًا منسيًا”. نَظَرْتُ إلى “الوجه” الذي أعشق وقد زانته قسمات بهية لم تأبه لتمدد الزمن وتتاليه. كان يغط في سبات عميق. ترددت كثيرًا قبل أن أوقظه وأناديه: “يا أبوي”. لم أحتاج أن أُكررها فقد انتفض جالسًا. هكذا كان نومه خفيفًا كما النسمة. سألني: “ما بك؟”. خرجتْ منيَّ الكلمات مرتجفة، متقطعة: “أخي عبدالرحمن البوليس القي القبض عليه وهو يكتب بالبوهية على الحائط شعارات تنادي بالحرية وبسقوط نميري وتُمَجِد حزب البعث وهو الآن مْعَتَقَل”. نَظر إليَّ نظرة طويلة جَسَدَت أحاسيس متباينة أتت كلوحة رُسِمَت ذات ليل موحش بألوان قاتمة. كم خشيتُ صمته، وكم تَهَيَبْتُ كلماته. كلماته التي أحببتها قبلًا، لَكَم أخشاها الآن. وأخيرًا، قال: “خلاص عملتوها، لا حول ولا قوة إلا بالله”.
(خالد كامل) كان “ثالث ثلاثة”، عبدالرحمن صلاح، ونجم الدين سعيد، إنهم فتية آمنوا بوطنهم فامتطوا ظهر تلك الليلة الدامسة بقلوب تفيض حلمًا ببلد معافى، وأيدٍ تحتضن جردل “بُهْية” و”فُرَش”!!!
إنها أدوات رسم “جدارية ما بعد منتصف الليل”، وكل ليل، لتضيء صبحًا يتنفس حرية وخبزًا.
Leave a Reply