
محمد شريف
#ملف_الهدف_الثقافي
يمتلك الذكاء الاصطناعي القدرة على تقليد أنماط أدبية متعددة لكتّاب من عصور وأماكن مختلفة. فيكتب بأسلوب المنفلوطي التراثي القائم على التهذيب الأخلاقي والسرد الوجداني، ويحاكي نغمة جبران الفلسفية الشاعرية، ويغزل المشهد بروح الطيب صالح التأملية، ويحلله بمنطق عبدالرحمن منيف الاجتماعي، ويرسم الشخصيات بتفاصيل محفوظية دقيقة تنبض بالحياة.
نقدم هنا نصًا بشريًا أصيلًا، يليه خمس محاولات سردية أنشأها الذكاء الاصطناعي، تستند إلى نفس المشهد، وتُعرض بأساليب روائية مختلفة، لتكشف ليس فقط عن براعة الآلة في المحاكاة، بل عن جوهر السؤال: هل يمكن للذكاء الاصطناعي أن يكتب أدبًا حقًا؟ وهل تقليد الأسلوب يكفي ليولد النص حيًّا؟
نموذج نص “النص الأصلي كتابة بشرية”
انتصاراتي انكساراتي
جاءوا بأرباحي. قلت: من أين؟ قالوا: “قامرتَ وكسبت، وخسر الآخرون.” وكنتُ، منذ الصغر، أكسب، كأن العملة صُكّت على الوجهين بصورتي. غامرت، ونقّبت، ونلتُ ما نلتُ من الذهب، فسال الزئبق ليسقي القرية موتًا مؤجلًا، ونقصانًا في الفحولة. قالوا: لا تبنِ طابقًا فوق بيتك، ستحجب عنّا الهواء. أقنعتُ المحكمة أن الظل سيزداد طولًا. سألتُ: لماذا لن تُقام هذا العام سباقات المسافات الطويلة؟ قالوا: “بعد الثامنة يئسنا، فلم يبقَ غيرك يرفع كأس البطولة.” ولا الشطرنج… لا أحد يُجاريني في المهارة. في مجلس المدينة قالوا: نعبدُ الطريق المارّ بالبلدية. قلتُ: لكن شارع المدرسة والمستشفى أَولى. وكانت الحُجّة الأقوى. مطارحة الشعر؟ من تَسلّح بعنترة، والمتنبي، والشنفري؟ لم أظلم أحدًا، لكني سرتُ وحدي، حاملًا الشهادات التقديرية، ورايات النصر، وكؤوس البطولة.
وجهي الآخر من النصر، كما لو رواه المنفلوطي
قد يظن الناس أن النصر إذا ما تحقق لصاحبه، قد أهداه الحياة، وأعفاه من تبعات الألم، لكنه، ورب الكعبة، قد يكون الجرح الذي لا يندمل، والأنين الذي لا يُسمع، والرفيق الذي ما صحبه إلا ليجرده من كل رفقة. كان عمران شابًا نشأ في أحضان الجد والاجتهاد، لا يعرف من الحياة سوى بابٍ يطرقه بيدٍ من نار، وأخرى من صبرٍ لا يلين. ترعرع بين دفاتر العلم، لا يلوي وجهه لصخب الأصدقاء، ولا يأنس لمجالس الرفاق. كلما تبارى قومٌ في أمر، سبَقهم، وكلما عُرض عليه امتحانٌ، اجتازه، وكأن القدر قد صك له العملة بوجهين يربح فيهما في كل حال. وقد كُرِّم يومًا على اكتشافه لسبيلٍ يُستخرج منه الزئبق من أطلال الأرض اليباب، فازدانت له الوجوه، وصفقت له الأكف، لكنه لما رجع، لم يجد من يرافقه إلا ظلّ المجد وحده، يمشي معه في طريقٍ لا يُسمع فيه إلا صدى خطواته.
ولما ابتنى طابقًا فوق بيته، نازعه الجيران، وشكوا إليه انقطاع الهواء، وضيق النفس، فما لان لهم، بل ساق الحجة إلى المحكمة، فأقنعها أن الظل إذا طال، فهو رحمة، وما علم أن الرحمة لا تنبت في ظل الأنا. وفي مجلس البلدية، حين عُرض عليه تعبيد طريقٍ يمرّ بالمدرسة والمستشفى، ركن إلى طريقٍ يخدمه، لا يراعي في اختيارِه إلا مصلحته، ولا ينظر إلى وجه الطفل الذي يقطع الطريق إلى العلم، أو المريض الذي يسير على أمل الشفاء.
أما الشطرنج، فلم يبق له فيه منازع، فما بقي إلا أن يلعب مع نفسه، يزيح الأحجار كما يشاء، منتصرًا دومًا، لكنه منتصرٌ على من؟!
وفي عامٍ من الأعوام، لما سأله الناس: “لماذا غابت سباقات المسافات الطويلة؟”، أجابهم في صوتٍ يحمل من البرود ما يطفئ جذوة الحماسة: “بعد الثامنة، لم يبق فينا من يحمل الكأس سوى أنا.” فصمتوا، ومن حينها، لم يسأله أحدٌ بعدها شيئًا.
وجاءه طفلٌ ذات مساءٍ بورقةٍ صغيرة، كتب فيها بخطٍ مرتجف: “شكرًا لأنك نجحت وحدك.”، فقرأها، وتأملها، ثم طواها، وابتسم. كانت الورقة لطيفة، نعم، لكنها موجعة، موجعةٌ كالزهرة تُلقى على قبرٍ ساكنه حيٌ، لا يشعر إلا بوحدة النصر.
فجلس تلك الليلة، بين كؤوسه وشهاداته، وكتب على سبورة مكتبه عبارةً لم يكتب مثلها من قبل: “في كل نصرٍ، كنت أخسر أحدًا كان جديرًا بأن يشاركني فرحتي”.
وجهي الآخر من النصر، بأسلوب جبران
حين يسير الإنسان في طريق المجد وحده، تتبعثر خطواته في صمت، وتُحدّق إليه الأشجار دون أن تلوّح له بأغصانها. لقد مشى عمرانُ بين الناس، ولكنّه لم يكن منهم. كلما خطا، قالوا: “ها هو الناجح، ها هو المنتصر”، لكنهم لم يروا في عينيه شوقًا لرفيق، ولا في ابتسامته رجاءً لوصل. كان النصر يسكنه كما تسكن الرياح قمة الجبل؛ عالية، قوية، لكنها لا تجد من يصغي إلى عويلها. لقد استخرج من الأرض ذهبًا، وسقى القرية بزئبقٍ لامع، ثم انطفأ البريق حين مدّت الحياة يدها لتسأله عن الثمن، فلم يجب.
بنى طابقًا فوق بيته، وعلّق فيه جوائزه، ولكنّه لم يعلّق صورًا لرفقاء أو أحباب، لأنهم لم يبقوا. أقنع المحكمة أن الظل نعمة، لكنه لم يدرك أن النعمة إذا حجبت الضوء، صارت نقمة. وفي مجلس البلدية، كان صوته أعلى، وحجته أذكى، لكن عيون الآخرين كانت تفيض بحسرة لا تُقال. اقترحوا تعبيد الطريق إلى المدرسة، لكنه لم ير سوى الطريق المؤدي إلى مكتبه. اختار الحجر، وتجاهل القلب. أما الشطرنج، فكان يلعبه وحده. كانت القطع تتحرك كما يشاء، وكان الملك لا يُؤسر، والوزير لا يُضرب. لكنه لم يسمع تصفيقًا، ولم ينظر أحدٌ إلى فوزه إلا كما ينظر إلى تمثالٍ لا يدفأ، ولا يحزن، ولا يحب.
وفي يومٍ من الأيام، جاءه طفلٌ بورقة صغيرة، مكتوبٌ فيها: “شكرًا لأنك ربحت وحدك.” فقرأها عمران، وابتسم كما يبتسم البحر حين يفقد زورقًا من زورقه ولا يُخبر أحدًا. وفي المساء، جلس أمام مرآته، وتأمل وجهه الذي لا يضجُّ بالندم، لكنّه لا يعرف السكينة. وكتب: “كل انتصارٍ لا يشاركني فيه من أحب، هو هزيمة على هيئة مجد.”
وجه بلا شرفة، بأسلوب عبدالرحمن منيف
لم يكن عمران استثناءً.. بل كان حصيلة سنواتٍ طويلة من الخوف والانكفاء، من المعادلات التي تمحو الإنسان كي تكتب الرقم. نشأ في مجتمع لا يمنح الاحترام إلا لمن يحمل شهادة، ويضرب بسيف الإنجاز، ولو كان ذلك الإنجاز فوق جماجم الرفاق. فهم مبكرًا أن القاعدة بسيطة: لا تنظر خلفك، ولا تسأل عن الطريق إذا كنت تعرف النهاية. حقّق انتصارات متتابعة. نُقبت الأرض، واستخرج منها ما كان في ظاهرها ذهبًا، لكنه في باطنه سمٌ يتسلل إلى أعصاب القرية. بنى بيتًا أعلى من بيوت الجيران، لم يكن يريد الهواء، بل أن يُرى من بعيد كعلمٍ فوق صخرة.
في مجلس البلدية، تحدّث بثقة من يعرف كيف تُدار الأوراق، ووجه الطريق نحو منفعته. المدرسة؟ المستشفى؟ تلك أماكن لا تأتي منها الصور المعلقة على الجدران الرسمية. حتى الشطرنج، لعبه كما يكتب تقاريره: دون شريك، دون خاسر، دون ضجة. الكل انسحبوا… لم يعودوا راغبين باللعب، لا لأنه أقوى، بل لأنهم ما عادوا يرونه معهم. في لحظة صفاء، جاءه الطفل بورقة. لم تكن شهادة ولا دعوة لمؤتمر، بل جملة واحدة: “شكراً لأنك ربحت وحدك.”
قرأها، ولم يقل شيئًا. لكن في تلك الليلة، وضع كل شهاداته جانبًا، وكتب في دفتره الخاص: “كل نصر لا تصاحبه الأيادي المرفوعة، هو شرفة بلا وجه.”
عمران.. كما رآه الطيب صالح
عمران؟ ذلك الفتى الذي نشأ في أطراف الحقول، وعيناه تشبهان عين طائرٍ يحدّق في الشمس ولا يطرف. كانوا يقولون إنه ما رسب يومًا، حتى في لعبة “الحجلة” حين كنا صغارًا، كان يجد الحَجَر في كل مرة دون أن ينظر. كبر. صار رجلًا له شأن. الناس تناديه “الأستاذ”، لكنهم لا يدعونه إلى قهوة العصر ولا إلى وداع الحاجات البسيطة. هو لا يغني معهم “يا ريتنا”، ولا يضحك من نكتة نطقها شيخٌ في السوق. استخرج الزئبق من ترابٍ مات فيه الجدود. قالوا له بارك الله فيك، ثم بدأ الأطفال يمرضون، وبدأت النساء ينقصن من حديث الغروب. بنى طابقًا فوق البيت، فاختفى ظل النخل، وصار الهواء شحيحًا في الجوار.
في البلدية، قالوا نريد تعبيد طريق المدرسة، فقال لهم بصوته الذي يشبه صوت المدير في يوم تفتيش: “شارع البلدية أولى”. ومرّت الأيام، والمدرسة ظلت كما هي، يدخلها التلاميذ وقد تحفهم الغبار كوشاحٍ من الإهمال. أحب الشطرنج، لكن ما عاد أحدٌ يحب أن يلعب معه. قال لي مرة، ونحن على شاطئ النيل: “هم لا يخسرون أمامي، هم يهربون من الخسارة.” لم أقل له شيئًا، لكنني رأيت في عينيه وهجًا، كوهج النار التي لا تجد ما تحرقه.
أعطاه طفلٌ ورقة، كتب فيها: “شكراً لأنك فزت وحدك”.، فوضعها على رفٍ بين الكؤوس، وظل يحدق فيها كما يحدق العصفور في قفصه الذي لم يعرف غيره. وفي المساء، سمعته يهمس، وظننت أنه يحكي لنفسه أو للغبار على كتبه: “ربحتُ، نعم، لكن من سيحمل معي طَعم الربح؟”
وجه في المرآة، بأسلوب نجيب محفوظ
كان “عمران” موظفًا محترمًا. يرتدي بذلة قديمة لكنها مكوية، يضع شهاداته في حافظة جلدية ويرتبها كل يوم كما يرتب أفكاره. في الحي، كانوا يلقبونه “الأستاذ”، لا لأنهم يحبونه، بل لأنهم لا يملكون سببًا يمنعهم من احترامه. منذ صغره، اعتاد أن يفوز. في المدرسة، كانت شهادته توضع على الحائط، بينما يكتب الأطفال اسمهم على الرمال. لما كبر، ابتكر وسيلة لاستخراج الزئبق من الأرض، وقالوا له: بارك الله فيك. ثم مات أحد الأطفال، ولم يسأل أحد لماذا. بنَى طابقًا فوق بيته، فاحتج الجيران. قالوا: يحجب الهواء. لكنه ذهب إلى البلدية، قدم عريضة، وانتصر. كان يقنع الجميع، لكنه لا يصادق أحدًا. وفي المجلس البلدي، ناقش مشروع تعبيد طريق يمر بالمكتب الحكومي، بدلًا من طريق المدرسة. لم يكن الموضوع موضوع إنكار أو خيانة، كان فقط يختار ما يراه منطقيًا، وما خدمته وثقافته تمليه عليه.
يلعب الشطرنج وحده، يحتفظ بكأسٍ زجاجي، وينظر إليه كل مساء. ذات يوم، جاءه طفل من الحي يحمل ورقة، كتب فيها بخطٍ ركيك: “شكرًا لأنك فزت وحدك.” فوضعها في درج المكتب، بجانب شهادته الجامعية. وفي تلك الليلة، وقف أمام المرآة، وقال لنفسه بهدوءٍ لا يخلو من المرارة: “كلنا نبحث عن النصر، لكن بعضنا ينسى أن يكون إنسانًا أثناء الرحلة.”
Leave a Reply