
أ. طارق عبد اللطيف أبوعكرمة
#آراء_حرة
ليست الفكرة في الجغرافيا، بل في ما يُصنع بها. ليست المسألة في المسافات، بل في المعاني التي تُفرَض على تلك المسافات. بهذا المعنى، فإن ثنائية (المركز والهامش) في السياق السوداني لم تكن مجرّد توصيف لواقع قائم، بل كانت مشروعًا لإعادة تشكيل الوعي، ولإزاحة الصراع من ميدانه الحقيقي، أي من حلبة السياسة والاجتماع والاقتصاد، إلى خنادق الجهة والقبيلة والثأر.
لقد تمَّ “تسييس الجغرافيا” في السودان، وتحويلها إلى ثنائية قاتلة، جعلت من العاصمة عدوًا مفترضًا، ومن الأطراف ضحية أبدية. لم تُبْنَ هذه الثنائية على قراءة نقدية لمسار الدولة السودانية، بل على خطاب عاطفي، وتحريضي، ومجزوء، يعيد إنتاج المظلومية بأدوات فكر ما بعد الاستعمار، لكنه يسقط في فخاخ الاستعمار ذاته، أي تفكيك الشعب إلى هويات متناحرة.
لقد عمل هذا الخطاب على اختزال الدولة في المركز، واختزال المركز في نخبة، واختزال النخبة في جهة، ثم اختزال الجهة في جماعة، وهكذا حتى يتحول الوطن كله إلى خريطة من الكراهية الرمزية، حيث يصبح كل مشروع وطني متّهَمًا سلفًا بـ التمركز أو الاستعلاء، وتصبح كل دعوة للوحدة الوطنية موضع شك.
إنّ البناء المفهومي لهذه الثنائية جرى على مراحل:
المرحلة الأولى: تم خلالها نزع الصراع من سياقه (الطبقي – التنموي)، وتقديمه بوصفه صراعًا جغرافيًا بحتًا، حيث يُصوَّر التاريخ السوداني كعملية إقصاء متعمد لـ الهامش لصالح المركز، دون تفصيل للظروف البنيوية التي تشكلت في ظلها الدولة الاستعمارية ثم الوطنية.
المرحلة الثانية: تم فيها تحميل المركز المسؤولية عن كل اختلال بنيوي في الدولة، من فشل التعليم إلى سوء توزيع الموارد، إلى غياب التنمية، إلى الحروب الأهلية. وتحول المركز من رمز إداري أو عاصمة سياسية إلى شيطان جغرافي، يُطلب منه أن يدفع الثمن دون أن تُفتح معه أي محاكمة عادلة.
المرحلة الثالثة: وهي الأخطر، حيث تم استخدام هذه الثنائية كمنصة سياسية لتبرير مشاريع الانفصال، والتمرد، والخروج من وحدة الوطن تحت مسمى حق تقرير المصير، أو الوحدة الطوعية. وفي هذه المرحلة، التقت التيارات المتأسلمة مع تيارات السودان الجديد، في تطابق مريب: الأول يحتكر الدين، والثاني يحتكر المظلومية، وكلاهما يوظف الجغرافيا ضد الوطن.
هكذا تم تفتيت الوعي الوطني. فلم يعد السؤال هو: ما شكل العدالة الاجتماعية؟ بل صار: من هو المهمش ومن هو المتمركز؟ ولم يعد الهدف بناء دولة لكل مواطنيها، بل بناء توازن هش بين كيانات متناحرة، تُهدد بعضها بعضًا بـ الخروج أو الردة أو المفاصلة.
لقد كان ينبغي أن يكون الهامش صوتًا للعدالة، لا منصة للتمزيق، وأن يكون المركز عقل الدولة لا كعب أخيلها. لكن الخطاب الذي صاغ هذه الثنائية لم يكن بريئًا. كان يسعى – بوعي أو دون وعي – إلى تهشيم الروح الوطنية، وتحويلها إلى فتات هويات.
في عمق هذا المشهد، تختبئ الفكرة الأساسية في أن: أزمة كل شعب تبدأ حين تنفصل النخبة عن الشعب، وتتحول اللغة المشتركة إلى سلاح انقسام.
واليوم، نحن أمام مشهد يحاكي هذا الانفصال. فالنخبة التي تبنّت خطاب المركز والهامش، اختارت تفتيت الوطن باسم إنقاذه، وتهشيم الدولة باسم تحريرها. أما الشعب، فقد بقي في مكانه، مسحوقًا تحت خطابات لا تصنع الخبز ولا توقف الحرب.
إن تجاوز هذه الثنائية لا يعني إنكار التفاوت، لكنه يقتضي تفكيك سرديات التضليل التي تُبقي الصراع في مداره الزائف. يعني العودة إلى سؤال الدولة: من يملك؟ من يُهمَّش؟ ولماذا؟ لا: من أين أتى هذا أو ذاك.
بغير ذلك، سيظل الهامش هامشًا حتى وهو في الحكم، وسيظل المركز متهماً حتى وهو مشرد. وتبقى الدولة – تلك التي حلم بها الآباء – كلمة مؤجلة في فم الخراب.
معاً لوقف الحرب اللعينة، وبناء الجبهة الشعبية العريضة للديمقراطية والتغيير.
إلى موعد قادم،،،،،،
Leave a Reply