
أ. طارق عبد اللطيف أبو عكرمة
كل مؤتمر دولي حول فلسطين هو محاولة لدفنها تحت أكوام من الكلمات. هكذا يمكن اختزال ما جرى في (27 يوليو 2025) ذلك اليوم لم يكن مجرد موعد دبلوماسي، بل مرآة كاشفة لمدى انحطاط الخطاب الدولي بشأن فلسطين. اللحظة الرمزية التي قُطع فيها بث كلمة رئيس الوزراء الفلسطيني ليست حادثة عرضية، بل تكثيف حيّ لمنهجية الإقصاء التي تنتهجها المنظومة العالمية: تُفتح القاعات، وتُرفع الشعارات، ثم يُسحب الميكروفون حين يُقال ما لا يرضي المانحين.
ففي قلب هذا المؤتمر، يتجاور النفاق السياسي مع بلاغة ناعمة تخفي تناقضاتها تحت قشرة مفردات السلام والتوازن. الإدانة المزدوجة – لحماس وإسرائيل على حد سواء – ليست تعبيرًا عن حياد أخلاقي، بل هندسة أخلاقية جديدة تساوي بين الجلاد والضحية، بين من يقصف غزة ومن يخرج من تحت الأنقاض. دقيقة الصمت على (ضحايا المنطقة) هي لحظة سردية بامتياز: جُعل الدم الفلسطيني مائعًا في رواية إقليمية، لا يحمل بصمته، ولا يحق له النطق باسمه.
وإذا كانت الرئاسة السعودية الفرنسية قد تبدت كتحالف دبلوماسي غير منسجم، فإن هذا اللاانسجام نفسه يعكس هشاشة البنية السردية للمؤتمر. فبين لغة باريس التي تُصر على ربط كل شيء بهجوم (7 أكتوبر)، ولغة الرياض التي تتحدث عن (عاصمة فلسطينية) دون أيّ أفق أو التزام، لا يبقى سوى صوت مفرغ من مضمونه، يرفع شعار القدس، ويواصل بناء السفارات على بعد أمتار من سفارة تل أبيب.
أما الغياب(الإسرائيلي) الأمريكي، فليست مقاطعتهما دليلًا على رفض المؤتمر، بل على اطمئنان عميق: طالما لم يكن هذا المؤتمر تهديدًا فعليًا لبنية الهيمنة، فلا ضرورة للتدخل. فلو كان المؤتمر فعّالًا فعلًا، لحضرت(إسرائيل) وأفشلته من الداخل. الغياب هنا هو علامة رضا، لا احتجاج.
لكن ما هو (حل الدولتين) أصلًا؟ ولماذا يعود في (2025) كلغمٍ فكري انفجر منذ عقود؟ هذه العودة ليست سوى إعادة تمثيل بلغة قديمة لصراع تغيّر جذريًا. فلسطين اليوم ليست تلك التي تحدّها خطوط (1967). والجغرافيا ليست المسألة الوحيدة. فاللاجئون، والهوية، والتفكيك الممنهج للقدس، جميعها تُستبعد لأن الحلّ مفصّل مسبقًا. إنه حلّ تقني لصراع وجودي. عرض معماري لبناء دولة بلا أساس ترابي، ولا عمق تاريخي.
إن المؤتمر لا يسعى لحل، بل لإنتاج (لغة) عن الحل، تسمح بإبقاء الاحتلال بوصفه مؤقتًا، والمقاومة بوصفها إرهابًا، والتطبيع بوصفه سلامًا. هنا يستحضر التحليل السياسي آليات (الإدارة اللانهائية للصراع)، كما وصفها فوكو: ليس الهدف تفكيك النزاع، بل تنظيمه، ضبط إيقاعه، منحه حدودًا لغوية وقانونية تسمح باستمراره في صيغة مقبولة دوليًا. (إسرائيل) لا تحتاج لمن يفرض عليها حلًا، بل لشركاء يمنحون استمرار الاحتلال شرعية خطابية. من هنا، يصبح (حل الدولتين) ليس تسوية، بل أداة استعمارية ناعمة.
هذا ليس مجرد تحليل نقدي، بل تشريح لغوي-معرفي لآلية الاستعمار في زمن ما بعد الاستعمار. كما بيّن إدوارد سعيد، فإن اللغة ليست وسيلة تواصل بل أداة صراع. حين تتحول فلسطين إلى (قضية أمنية)، أو تُختزل في (أرض متنازع عليها)، يُسحب منها حقها في التاريخ. تُختصر في بند تفاوضي، لا في حق أصيل بالوجود. ويُستبدل سؤال العدالة بسؤال الواقعية السياسية.
البدائل هنا لا تكمن في رفع شعارات من نوع (حل الدولة الواحدة)، بل في مساءلة البنية الذهنية نفسها: تحليل وثائق مؤتمر (2025) يظهر تكرار( 78% )من مصطلحات كامب ديفيد. لماذا تواصل النخب السياسية استنساخ نموذج الدولة الوطنية وكأنها غاية في ذاتها، بينما الواقع يقول إن (إسرائيل) لم تترك لفلسطين حتى مقوّمات (البلدية)؟ لماذا يُعرض علينا سلام، لا في زمن الانتصار، بل في ذروة الإبادة؟
إن المقاومة لم تعد ترفًا أخلاقيًا، بل ضرورة فلسفية. إنها مقاومة للهزيمة بوصفها خطابًا. مقاومة لأسلوب التفكير الذي يطمئن للتمثيل الدبلوماسي بينما تُهدم البيوت. المقاومة اليوم هي رفض التطبيع، لا كشعار بل كبنية معرفة. إنها نفي لشرعية المؤتمرات التي تُعقد لا لتقربنا من الحرية، بل لتُعيد تعريف الحرية بمعايير الغالب.
لا مكان هنا للرومانسية السياسية. بل للوضوح القاسي: هذا المؤتمر لم يكن بداية حل، بل استمرارًا للنكبة بلغة جديدة. إنه طقس جنائزي بلا جثة، لأن الجثة لا تزال تقاوم. فلسطين ليست في حاجة إلى دقيقة صمت، بل إلى ضجيج يقظ، يهزّ هذه الطاولة المهترئة التي جلس حولها المتواطئون.
تبقى القضية الفلسطينية حية، لا لأن العالم يُنصفها، بل لأنها تُنجب من تحت الردم جيلًا لا يقبل أن يُقال له: (لقد نُسيت قضيتكم.) إن لم تعد فلسطين اختبارًا لضمير العالم، فعلى الأقل، لتكن اختبارًا لضميرنا.
لم تكن فلسطين في الخطاب القومي البعثي مجرد قضية قومية مركزية، بل كانت تجلّيًا مكثفًا لمفهوم (الوحدة في وجه التجزئة)، و(التحرر في وجه التبعية). لقد رآها حزب البعث، لا كأرض مغتصبة فقط، بل كبوصلة أخلاقية تختبر صدقية المشروع القومي ذاته. لهذا لم يكن الدفاع عن فلسطين نابعًا من تضامن خارجي، بل من شعور بالتماهي الوجودي: سقوط فلسطين هو سقوط لفكرة الأمة العربية، كما أن بقاءها رمزًا للمقاومة هو الضامن الرمزي لاستمرار الحلم الوحدوي. لهذا أيضًا، لم يكن الانخراط في دعم المقاومة خيارًا تكتيكيًا بل التزامًا أنطولوجيًا – أي جزءًا من كينونة الخطاب القومي ذاته. واليوم، حين تُختزل فلسطين في مفاوضات ومعابر وحدود مؤقتة، فإن استدعاء هذا البعد الجذري من الفكر القومي يُعيد تثبيت البوصلة في مواجهة التفكيك الناعم: فالمقاومة هنا ليست فقط ردًا على الاحتلال، بل رفضًا لمسخ الوعي، وتجفيف المعنى، و(تدجين الحلم).
وإذا كانت الحكومات قد رهنت مواقفها تحت سقف الرضا الأمريكي أو الخوف من الفوضى، فإن الشعب لم يسقط بعد امتلاكه للأثر والتأثير. إن اللحظة التاريخية التي نعيشها، بكل مآسيها، لا تزال تفتح نافذة لفعل سياسي من نوع جديد: فعل لا يمر من خلال أنظمة مهترئة، بل يخرج من ضمير جماعي قادر على الضغط، والمساءلة، والقطيعة مع منطق الصمت. على الشعب العربي، ومعه الشعوب الحرة في العالم، أن يستعيد دوره لا كمجرد متضامنين، بل كقوة تغيير ضاغطة – لا على الاحتلال فقط، بل على حكوماته، وعلى اللغة التي تُنتج بها الأكاذيب. لم يعد الصراع العربي – الفلسطيني مجالًا لـ(التعاطف)، بل ساحة اختبار لفكرة الإنسان ذاتها: هل يمكن أن تكون إنسانًا بينما تواصل حكومتك دعم قاتلك باسم الواقعية؟ إن كل شركة تُمول القصف، وكل نظام يُطبع، وكل جامعة تُخرّج موظفين في الظلم، هي ساحة مواجهة مفتوحة. والتاريخ، كما علمنا، لا يُكتَب بقرارات القمم، بل بإرادة القواعد.
إذا كان المؤتمر قد نجح في شيء، فهو كشف أن ‘حل الدولتين’ لم يعد حتى وهمًا مفيدًا، بل شاهد قبر على نظام دولي أفلس أخلاقيًا. ليس السؤال كيف ننتقد هذا المؤتمر، بل كيف نبني ذاكرة جماعية تمنع تحويل فلسطين إلى مجرد ملف في أرشيف الأمم المتحدة؟.
Leave a Reply