نزيف الأدمغة العربية: الهروب من الخرائب إلى المنافي.. فهل من عودة قبل فوات المعنى؟


أ. طارق عبد اللطيف أبوعكرمة

المقدمة: هجرة العقول… أم هروب الأرواح؟

ليست هجرة العقول العربية سوى عرض من أعراض العطب العميق في بنية الوجود العربي ذاته. فما يبدو كرحيل فردي من وطن إلى آخر، هو في حقيقته هجرة للمعنى، وانسحاب تدريجي للروح من جسد لم يعد يحتمل الحياة. لم تعد الهجرة قرارًا تُسوّغه الحاجة، بل صارت فعلًا وجوديًا خالصًا، يشبه صرخة أخيرة لمن ضاق به الأفق في وطن بات سجنه أوسع من منافيه. إنها ليست مغامرة إلى المجهول، بل فرار من يقين بموت معلن في الخرائب التي تُدعى “وطنًا”.

الطبيب الذي يرحل ليس مجرد موظف في قطاع الصحة، بل هو مشروع حياة كان يمكن أن يُزرع في تربة الوطن، فاقتلِع ليُثمر في مكان آخر. الباحثة التي تطلب اللجوء الأكاديمي لا تهرب فقط من الفقر، بل من منظومة لا تعترف بالمعرفة إلا إذا كانت مطيعة. المهندس الذي يغلق وراءه بوابة الجامعة الأخيرة، لا يغادر وظيفة، بل يغادر حلمًا اسمه “النهضة”.

الهجرة ليست مأساة من يخرج، بل فضيحة من لم يستطع أن يُبقيهم. فحين يهاجر العقل، فإن الجغرافيا تخسر معناها، والوطن يُفقد أحد أطرافه الحية. والسؤال الفلسفي هنا ليس: لماذا يهاجرون؟ بل لماذا لا يبقون؟ أليست الأرض التي لا تحتمل فكرًا حرًا هي في حقيقتها لا وطن، بل منفى داخلي؟

1. تشريح النزيف – لماذا يهرب العقل العربي؟

هناك عدة أسباب لهذا الواقع الخطير منها:

أ. موت المعرفة في أرض الأنظمة الميتة: المعرفة لا تُزهر في العدم، ولا تنمو في بيئة تخشى السؤال وتهاب الشك. الأمم التي تبني مستقبلها تقيس عافيتها بعدد براءات الاختراع، لا بعدد جوائز المديح الخطابي. أما في الوطن العربي، فإن العقل يعيش في حالة طوارئ دائمة: محاصرًا بالبيروقراطية، مجرّدًا من أدواته، مطعونًا في كفاءته باسم الولاء، ومهدّدًا بالتهميش إن فكّر خارج النص.

جامعاتنا ليست سوى جُزر إسمنتية معزولة عن المجتمع، بلا روح ولا معامل أو مختبرات. أما البحث العلمي فموضوع لا يُطرح إلا في الخطب الرسمية أو تقارير المؤتمرات العقيمة. ميزانية البحث العلمي في أغلب بلداننا لا تتجاوز 0.3% من الناتج المحلي، بينما تُنفق دول صغيرة الحجم وكبيرة الطموح نسبًا عالية من دخلها القومي على البحث والتطوير إيمانًا منها بأنه أساس النهضة. والنتيجة؟ أن المختبرات والمراكز التي يُنشئها المهاجرون العرب في الغرب باتت أكثر تطورًا من جامعاتهم الأصلية. والمفارقة الفاجعة أن العقول التي تُرفض هنا تُستقبل هناك، وتُمنح الأدوات لا لتُطبّل، بل لتُبدع.

السؤال المؤلم هو: كيف يمكن لشرارة الفكرة أن تشتعل في بيئة لا ترى في العقل إلا مصدر قلق؟ كيف يولد العلم في نظام يعادي التجريب، ويقدّس النقل، ويكافئ الانصياع؟ في عالم كهذا، تصبح المعرفة عبئًا، والمفكر مشروعًا لمواجهة لا لبناء.

ب. الفساد: ذلك العدو الصامت للعقل

الفساد ليس مجرد اختلاس مالي أو انحراف إداري، بل هو بنية فلسفية تحوّل الوطن من حاضنة للإبداع إلى طارد له. إنه طاعون يُصيب الضمير الجمعي، ويحوّل المبدع إلى دخيل في أرضه، والناجح إلى خصم محتمل. في أوطان تُمنح فيها المناصب بالقرابة أو المحاصصة أو بالشراء لا بالجدارة، تصبح الكفاءة خطراً يُراقب، لا فضيلة تُشجّع. العقل النزيه في بيئة كهذه أشبه بحجر نقي في بحر من الطين: إما أن يُلوّث، أو يُلقى خارجاً.

كيف يبقى المفكر في وطن يتآمر عليه الصمت؟ لماذا يُدان المتميز بتهمة الغرور، ويُكافأ الجاهل بلقب “الابن البار للنظام”؟ هل يُطلب من العقل أن يُبدع وهو خائف؟ أن يُنتج وهو مُحاصر؟

الشباب العربي لا يهاجر لأنه يكره وطنه، بل لأنه يضيق به، لأن حلمه أوسع من الخريطة، وأعمق من الشعارات. يهرب لأنه لا يجد طريقًا إلى العدل إلا عبر الحدود.

ت. الحروب: حين تنزف الجغرافيا وتُذبح المعرفة

الحرب ليست فقط هدير المدافع وانهيار المدن. إنها أيضًا انهيار الحلم تحت ثقل الرعب والدمار. ففي الجغرافيا العربية، لم تقتصر الحروب على القتل الجماعي للأجساد، بل امتدت ببطء مرعب لتطال العقول؛ تُخرِسها، أو تُهجّرها، أو تُصادرها كما يُصادر السلاح.

حين تُدك المدن، لا تسقط البنايات فقط، بل تسقط معها الجامعات، والمختبرات والفصول الدراسية، والمكتبات، والأمل. فالهجرة القسرية التي يتعرض لها العلماء والباحثون ليست فرارًا من الخطر فقط، بل هي طرد رمزي للفكر من فضاء لم يعد يطيقه.

في العراق، لم يكن الغزو مجرد اجتياح عسكري، بل مجزرة معرفية بامتياز. النخبة العلمية إما اغتيلت أو هجّرت أو أُقصيت، كأن المشروع لم يكن إسقاط نظام، بل إفراغ وطن من أدمغته. منذ تسعينيات القرن الماضي، غادر عدد كبير من علماء العراق أو صمتوا أو انتهوا. أما في سوريا، بعد الحرب، لم يبق من الأطباء سوى أقل من نصفهم؛ أكثر من 40% هاجروا إلى المنافي، تاركين فراغًا لا يسده غير الصمت. أما فلسطين، فالإبداع فيها يُولد تحت الحصار ويُغتال تحت القصف، كأنها تُعاقَب لا فقط على تمسكها بالأرض، بل على تمسكها بالعلم والمعرفة.

الحرب، بهذا المعنى، ليست نهاية للمكان فقط، بل نفيًا للزمان والمستقبل والكرامة الفكرية. إنها إعلان إفلاس وجودي يرفع لافتة: “العقل هنا، في إجازة قسرية… إلى أجل غير مسمى”.

2. من يربح؟ ومن يخسر؟

أ. الغرب: “دوّلب عقولنا… ونحن نُقصيها”

المعادلة لم تكن يومًا سرقة من قِبل الغرب، بل هدية منّا إليه. نحن من نطرد، وهو من يستقبل. نحن من يُقصي الكفاءة، وهو من يُعيد استثمارها في مؤسساته. نحن من نُجهز الكفاءات ونخنقها، وهو من يمنحها الحياة من جديد.

حين تستقبل “ناسا” مهندسين من بغداد والخرطوم والرباط، فإنّها لا تمارس الاحتيال، بل تفتح أبوابًا أغلقناها نحن بأيدينا. وحين تزدحم مراكز الأبحاث البريطانية بأطباء من حلب وصنعاء، ومراكز الفكر الفرنسية بالمفكرين اللبنانيين والتونسيين، فالمشكلة ليست في الغرب الذي يرحب، بل في الأوطان التي تزدري أبناءها.

الغرب لا يحتال على عقولنا، بل نحن من خانها أولًا، حين لم نمنحها بيئة تحفظ كرامتها، ولا نظامًا يكافئ اجتهادها، ولا حرية تحمي أسئلتها.

نحن لا نخسر أفرادًا، بل نخسر المستقبل. كل عقل يغادر هو فصل لم يُكتب، واختراع لم يُولد، وأفق يُغلق بصمت. كل باحث يُقصى هو نظرية لم تُولد، وأفق من كتاب المستقبل يُغلق قبل أن يُفتَح.

الهجرة ليست مجرد حركة سكانية عابرة، بل نزيف حضاري لا نراه لأنه يحدث في صمت ناعم. هو موت بلا جنازة. هو وداع مؤجل للنهضة. كم من نظرية كان يمكن أن ترى النور في بغداد، لو لم تُستبدل المختبرات بالمعتقلات؟ كم من دواء كان يمكن أن يُطوّر في عدن، لو لم يُهاجر العالم بدل أن يُحتضن؟ كم من مشروع كان يمكن أن ينقذ الملايين، لولا أن صاحبه فرّ من وطن لم يعرف كيف يحتفظ به؟

الخسارة ليست فقط إحصائية… إنها فقدان بوصلة، وسقوط في دوامة التخلّف المتكررة، حيث نبدأ دائمًا من الصفر، بينما الآخرون يصعدون من حيث توقفنا نحن.

ت. البعد القومي للنزيف: حين يفقد الجسد العربي قلبه المفكّر

إن نزيف العقول في الوطن العربي ليس حدثًا منعزلًا محليًا في هذه العاصمة أو تلك، بل هو نزيف في الجسد القومي كله؛ إذ حين يهاجر طبيب من الجزائر، ويُغتال عالم في العراق، وتُقصى أستاذة من القاهرة، ويُهمّش مفكر في لبنان أو دمشق أو صنعاء، فإن الذي ينزف هو المشروع الحضاري العربي ذاته، ذلك الذي لم ير النور بعد.

إن تشتت الكفاءات لا يهدد فقط مستقبل كل قطر على حدة، بل يُقوّض الأساس المعرفي لأي وحدة ممكنة، لأن النهضة القومية لا تُبنى إلا على قاعدة علمية شاملة تتجاوز التجزئة، وتُراكم الخبرة عبر الجغرافيا العربية كوحدة حضارية واحدة. فهل يمكن أن نُقيم صرحًا وحدويًا ونحن نسهم بصمت في تفكيك نُخبنا العلمية وتذويبها في ثقافات أخرى؟ هل يمكن لحلم التحرر أن يصمد، إن كان مفكروه مهَمّشين، ومهندسوه مطرودين، وروّاده مهاجرين؟

البعد القومي في مأساة نزيف الأدمغة لا يكمن فقط في الخسارة البشرية، بل في ضرب إمكانية النهوض الجماعي للأمة العربية. وإذا كانت “الوحدة العربية” في جوهرها مشروع تحرير الإنسان العربي، فإن استعادة العقول، والاعتراف بها، وإعادة توطينها في سياق قومي جامع، ليست واجبًا إنسانيًا فقط، بل شرطًا لقيامة الفكرة نفسها.

2. هل من استراتيجية للاحتفاظ بالعقول؟

يتطلب الاحتفاظ بالكفاءات والعقول عدة عوامل من بين أهمها ما يلي:

أ. تُبنَ فيها المعرفة لا تُجهز عليها:

العقل، كالكائن الحي، يحتاج إلى بيئة خصبة، وإلى مناخ من الحرية والاعتراف والتقدير. لا يمكن لعقل أن ينمو في فراغ، أو يبدع في خوف، أو يُثمر في تربة ملوثة بالشك والإقصاء.

إصلاح التعليم ليس ترفًا، بل هو حجر الزاوية. لا يكفي أن نحفظ، علينا أن نسأل. لا يكفي أن نكرر، بل يجب أن نبتكر. والمعلم يجب أن يُعامل لا كموظف في مؤسسة تقليدية، بل كمهندس للعقل، وكراعٍ لأشجار المستقبل.

والبحث العلمي يجب أن يتحول من الشعار إلى الفعل. فالشعارات لا تصنع علمًا. ولا يمكن لمؤتمرات “النهضة المعرفية” أن تُنبت فكرة واحدة ما لم تكن هناك موازنات واضحة، وإرادة سياسية تُدرك أن تمويل المعرفة ليس إنفاقًا، بل استثمار سيادي في بقاء الدولة. فالبحث العلمي لا يحتاج فقط إلى المال، بل إلى أن يجد طريقه إلى التطبيق الميداني، وإلى الحرية، وإلى الانفتاح على أحدث ما توصل له العالم، وإلى مؤسسات تعرف أن الأفكار لا تُنجز في العزلة، بل في بيئات تتنفس الحوار.

ب. الاحتفاظ بالعقول: قبل أن نهدرها.

نُنشئ برامج استعادة العقول بعد أن تُغادر، كمن يبكي على أطلال بيت لم يسكنه أحد. والسؤال الأهم: لماذا نُجبرهم على المغادرة أصلاً؟ لماذا لا نبني ظروف البقاء، بدل أن نُجمل خطاب العودة؟ فالاحتفاظ بالعقل لا يعني منعه من السفر، بل منحه أسباب العودة الطوعية: والاحترام، والحرية، والتقدير، والكرامة المهنية. لقد أولى الحكم الوطني في العراق في ظل التنمية الانفجارية في السبعينات، اهتمامًا كبيرًا بالعلم والعلماء، إدراكًا منه أن النهضة الحقيقية لا تُبنى بالشعارات وحدها، بل بالعقول المنتجة والمعرفة المتجذّرة. فكان العالم لا يُهيمن عليه، ويُعامل باعتباره ثروة وطنية وقومية لا تقل قيمة عن النفط أو الأرض. وقد تجلّى هذا التقدير في دعم البحث العلمي في الجامعات، وإنشاء المؤسسات المتقدمة له خارجها، وتشجيع الكفاءات الوطنية في الداخل.

علينا إعادة الاعتبار لدور العالم والمفكر في مشروع التحرر والتقدم، فالكتلة القومية الشعبية العريضة للديمقراطية والتغيير لا يمكن أن تنهض إلا على أعمدة الوعي والعلم والمعرفة الملتزمة بقضايا الأمة العربية.

ت. الحرية، شرط الوجود للعقل:

لا يُبتكر العقل خلف القضبان، ولا تُولد النظريات في غرف التحقيق. كيف نطلب من الشاب أن يُبدع، وهو لا يملك الحق في أن يُغّرد بحرية؟ كيف نطلب من العالم أن يُجّرب، ونحن نحاكمه على رأي؟ الحرية ليست ترفًا نُمنحه في أوقات الرخاء، بل شرط سابق لكلّ فكر وحضارة.

الخاتمة:

الهجرة ليست خيانة، بل قرار قسري أو احتجاج وجودي على وطن يطرد أبناءه الأذكياء، ويكافئ من يطيع فقط. ليست العقول المهاجرة هي المشكلة، بل البيئة التي جعلت الهجرة خلاصًا، والبقاء انتحارًا بطيئًا. فالوطن ليس فقط أرضًا نُولد فيها، بل فكرة نُحب أن ننتمي لها. ولكي نستردّ أبناءنا، فعلينا أولاً أن نعترف بأنهم لم يرحلوا عبثًا، وأن الهروب كان صرخة حياة، لا خيانة للمكان. لقد حان الوقت لنُعيد ترتيب سلّم القيم: أن نضع العقل فوق الولاء، والمعرفة فوق الشكليات، والحرية فوق الطاعة العمياء. لعلنا، بذلك، لا نستعيد فقط من رحلوا، بل نستعيد أنفسنا.

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.