
محمد شريف
#ملف_الهدف_الثقافي
مقدمة:
منذ أن عرف الإنسان الخوف، بدأ يروي القصص. حكى لدرء الوحشة، ولتفسير الرياح، ولتطويع المجهول. لم تكن الرواية رفاهية، بل وسيلةً للبقاء، وسلاحًا للمقاومة، وجسرًا بين الفكرة والحياة.
وفي مسيرة الحكاية، وقف القاص والروائي شاهدًا على النفس، ومؤرّخًا لأسرار القلوب. لا يكتب ما حدث فحسب، بل يكتب ما كان يجب أن يحدث. لكننا اليوم في زمنٍ آخر؛ زمن تُكتب فيه القصص بلا قلب ينبض، ويُصاغ فيه الخيال بخوارزميات لا تعرف الحب ولا الفقد. زمن الذكاء الاصطناعي، حيث تُنتَج القصص كما تُنتَج القوالب، وتُحاكى الأساليب كما تُقلَّد الأصوات.
فهل نحن على أعتاب نهاية زمن “الكاتب الإنسان”؟
هل يمكن لآلة أن تحل محل من قضى عمره يكتب ليشفي؟
هل يمكن للذكاء الاصطناعي أن يحل محل القاص والروائي، لا كمساعد، بل كمبدع؟
هذا المقال لا يزعم امتلاك الإجابة القطعية، بل يحاول الاقتراب منها عبر التأمل، بتحليل قدرات الآلة، وحدود الروح، ومكانة الحكاية كفنٍّ إنساني لا يُستعار. وقد أرفقنا ملحقًا يعرض نموذجًا لنص أصلي أعيدت صياغته بأساليب عدد من مشاهير كتّاب القصة والرواية، لإبراز قدرات إحدى أدوات الذكاء الاصطناعي.
ما يستطيع الذكاء الاصطناعي إنجازه سرديًّا:
لقد بات الذكاء الاصطناعي، في صيغته اللغوية المتقدمة، قادرًا على توليد نصوص سردية متكاملة. بل إنه لا يكتب عشوائيًا، بل يراعي الأسلوب، ويقلد النبرة، ويتقمص طريقة تفكير القاص أو الروائي.
من خلال تجارب عملية، يمكن للذكاء الاصطناعي أن:
-
يُنتج قصة ذات حبكة منطقية، فيها بداية وعقدة وحل.
-
يُحاكي أساليب أدبية معروفة، كما فعلنا حين كتبنا القصة بأسلوب المنفلوطي، وجبران، ومنيف، والطيب صالح، محتفظًا بلغة كل كاتب ونمطه الروحي.
-
يرسم شخصيات متعددة الأبعاد، تعبّر، وتجادل، وتتأمل، وتُمنَح سمات نفسية واجتماعية دقيقة.
-
يبني عوالم متخيلة متّسقة داخليًا، سواء كانت تاريخية أو خيالية أو مستقبلية، ويوازن بين التفاصيل السردية والعمق الموضوعي.
إن الآلة قادرة ـ من خلال المعالجة اللغوية ـ على توليد سرديات منضبطة شكليًا، بل وقابلة للنشر في بعض الأشكال الرقمية أو التجارية. وهذه القدرة أصبحت أداة مثيرة في يد الكاتب، والناقد، وربما الناشر أيضًا.
لكن السؤال الأهم ليس: ماذا تستطيع الآلة أن تكتب؟
بل: لماذا نكتب أصلًا؟
وهل تكفي براعة التقليد لخلق شعور سردي حقيقي؟
ما يعجز عنه الذكاء الاصطناعي حتى الآن:
رغم براعة الذكاء الاصطناعي في المحاكاة وتوليد النصوص، تبقى هناك فجوة لا يسدها التطور التقني، لأنها لا تتعلق باللغة، بل بما وراء اللغة: بالروح.
فالآلة، مهما أتقنت صناعة الحكاية، تظل عاجزة عن إدراك النية الإنسانية خلف السرد. الكاتب لا يكتب فقط ليُنتج، بل يكتب ليُشفى، ليواجه، ليخاطب ماضيه، ويصالح خسارته.
الذكاء الاصطناعي يكتب من خارج الوجدان، بينما القاص الحقيقي يكتب من داخل الندبة.
يفتقر الذكاء الاصطناعي إلى صدق التجربة؛ ذلك الصدق الذي لا ينبع من ترتيب الكلمات، بل من اتساقها مع الألم أو الفقد أو الحنين.
حين يكتب الإنسان عن الوحدة، يكون قد عاشها. أما الآلة، فهي تصف الوحدة كما تصف لون الحائط: بلا رجفة.
الذكاء الاصطناعي لا يعرف التردد، ولا حيرة البداية، ولا إحباط الفكرة التي تذبل قبل أن تنضج. لا يخاطر. لا يكتب نصًّا قد يُرفض. لا يجرؤ على تجاوز المألوف.
بل الأهم أنه لا يملك “الذاكرة الشعورية”.
قد يستدعي المعلومات، لكنه لا يسترجع إحساسها، ولا يتذكر ما غيّرته فيه.
والرواية، في جوهرها، ليست سوى ذاكرة عاطفية مكتوبة بماء الحياة.
كما قال أحد الكتّاب:
“الرواية لا تُكتب بالكلمات فقط، بل بما حدث بين الكلمات.”
والذكاء الاصطناعي لا يسكن بين الكلمات، بل على سطحها.
الدور المساعد للذكاء الاصطناعي: لا كبديل، بل كشريك
وسط الحديث عن الذكاء الاصطناعي كتهديد محتمل للكاتب، يغفل كثيرون عن رؤية أكثر اتزانًا: دور الآلة كمساعد إبداعي، لا كمنافس شعوري.
الذكاء الاصطناعي، حين يُوظّف بحكمة، يمكن أن يصبح امتدادًا للكاتب لا خصمًا له.
لا يكتب من داخله، لكنه يستطيع أن يُحرر، يقترح، يفتح نوافذ للخيال.
بعض الكتّاب يستخدمونه لتحرير النصوص، أو تجريب حوار بين شخصيتين، أو توليد فكرة بديلة لعنوان.
وفي المشاريع الروائية الكبرى، يساعد في تنظيم الحبكة، ترتيب الأزمنة، مراجعة منطق الأحداث، دون أن يمس بجوهر السرد.
الناشرون والمترجمون يرونه أداة لتسريع التفاعل مع النصوص، وتحليل جمهورها، وتوقع توجهات القراءة.
لكن كل ذلك لا يصنع “كاتبًا جديدًا”، بل يصنع “بيئة جديدة للكتابة”، يُعاد فيها تعريف العلاقة بين الإبداع والآلة، بين الذكاء والوجدان.
لا يُقصي الذكاء الاصطناعي القاص، بل يعينه، إذا ظلت اليد التي تضغط على زر النشر، يدًا بشرية تعرف أن:
“بين الكلمات قلبًا.”
قراءة نقدية لمستقبل الرواية:
مع تمدد الذكاء الاصطناعي في الحقول الإبداعية، تظهر تساؤلات حقيقية:
هل ستتغير طبيعة الرواية؟
هل سنقرأ قصصًا وُلدت من خوارزميات؟
وهل سيبقى للكاتب الإنسان مكان في هذا المشهد الجديد؟
الرواية، بوصفها فنًّا طويل النفس، تعتمد على تراكم التجربة، وعلى قدرة الكاتب على صوغ العالم لا كما هو، بل كما يُحَسّ ويُحلَم ويُعاش.
لكن في العصر الرقمي، يبرز احتمال أن تنتقل بعض الأنواع الأدبية إلى يد الآلة، خاصة تلك التي تعتمد على القالب أكثر من الفلسفة، وعلى الحبكة أكثر من التوتر الشعوري.
قصص الرعب التجارية، الروايات الرومانسية السريعة، وأدب المغامرة المكرر… كلها قد تصبح حقلًا للإنتاج الآلي البحت، مصممة وفق ذوق الجمهور، ومهيكلة لإرضاء الخوارزميات.
أما الرواية التي تغوص في الذات، التي تسكن تفاصيل الحياة الصغيرة، وتستند إلى صمت الشخصيات أكثر من أقوالهم، فتظل عصيّة على المحاكاة.
لأن الأدب الحي لا يُكتب من خارج الجسد، بل من داخله.
قد نرى مستقبلًا هجينًا، تكتب فيه الآلة مسودة أولى، ثم يتدخل الكاتب ليضيف ما لا يُكتب: المجاز، والارتباك، والانفعال الشخصي.
ويبقى السؤال:
هل سيقبل القارئ أن يقرأ رواية بلا مؤلف؟
وهل ستتحول الرواية إلى منتج مصمَّم، أم تبقى عتبةً للتأمل في معنى الإنسان؟
الذكاء الاصطناعي قد يكتب “الرواية المستعجلة”، لكن القارئ النبيل، الباحث عن ما لا يُقال، سيبقى مع الكاتب الذي كتب لأن روحه أرادت أن تقول.
الخاتمة:
حين بدأ الإنسان يكتب، لم يكن يسعى للبراعة، بل للنجاة.
كانت الحكاية كُوّةً في جدار الحياة، يرى منها نفسه، ماضيه، وما لم يحدث بعد.
واليوم، وقد ظهرت الآلة بوصفها كاتبًا جديدًا، يحق لنا أن نتساءل:
هل سيبقى للنبض مكان في زمن الصياغة الرقمية؟
هل سيتحوّل الأدب إلى معادلة تُحل، بدلًا من سؤال يُعاش؟
الذكاء الاصطناعي يستطيع أن يكتب، بل أن يُدهشنا أحيانًا.
لكنه لا يحلم، ولا يخجل، ولا يكتب وهو يرتجف من جمال عبارة.
إنه يروي، لكنه لا يتذكّر.
ربما لا ينبغي أن نقصيه، بل أن نصاحبه.
فهو ليس البديل، بل المرآة التي تُضيف زاوية جديدة إلى النص.
لكن الأصل سيظل الإنسان: ذاك الكائن الذي يكتب، لأنه حين تضيق عليه الحياة، لا يملك إلا أن يكتب.
في النهاية، تستطيع الآلة أن تولّد قصة، وتنقّح نصًا، وتقلّد أسلوبًا…
لكنها لا تستطيع أن تهمس:
“هذه الجملة لم أكتبها بقلمي، بل بدمعةٍ سقطت مني ذات مساء.”
Leave a Reply