أحمد إبراهيم كباشي : سليلُ الأفنديّة المهذّب وزينُ العابدين .. أو حينما يصبح الزهدُ فلسفة حياة

بقلم: معتز أحمد 

هأنذا يا أبي العزيز أتجاسرُ للمرة الأولى لأكتب إليك منذ رحيلك المُرّ في 18 فبراير الماضي بالمملكة العربية السعودية إلى جوار حبيبك المصطفي صلى الله عليه وسلم .. ستسألني كعادتك عن فرق التوقيت بيننا، وتخبرني عن الوقت المتبقي عندك لصلاة العصر أو المغرب أو العشاء كيفما اتفق .. فرق التوقيت الآن بيننا لا أعلم عنه شيئًا .. لعلّه الفرق بين برْزخِ موتك البهيّ وملكوت حياتنا، التي فقدت بريقها برحيلك.. لعلّه الفرق بين الظاهر والباطن .. بين الكلمة والمعنى .. بين الشيء وجوهره.. بين العوالم الكثيفة والعوالم اللطيفة .. هل حقّ قول الشيخ عبد الغني النابلسي : بذاتي لذاتي لا لكم أنا ظاهرُ وما هذه الأكوان إلا مظاهرُ ؟ هل رُفِعَتْ عنك الحُجُبْ ؟ هل حفّتك الملائكة كما كنت تفعل طوال حياتك تحفّنا بالرعاية والاهتمام والحُبّ وتزرع فينا من نُبْلِكَ وكريم خصالك؟
الساعة عندنا الآن يا أبي السادسة والنصف عصرًا، أي ما مضي من صلاة العصر وما تبقى لصلاة المغرب بتوقيتك أنت .. هكذا كان ضبْط ساعتك الزمنية وربما البيولوجية .. لا أذكر تحديدًا ذلك التاريخ البعيد، الذي تخلّيتَ فيه عن لبس الأفندية العتيد واخترت لبس الجلابية البيضاء بتفاصيلها في جميع الأوقات وجميع المناسبات .. لكنني أذكر أيام يفاعتي وصباي سَمْتكَ ومظهرك الأنيق باللبس الأفرنجي ..ربما آخر مرة رأيتك فيها كذلك كانت قبل نحو ثلاثين عامًا.. لم يكن ذلك التغيير تغييرًا في المظهر دون المخبر ، ولا كان بخلاف دواخلك النقية نقاء الجلابية البيضاء ذاتها، فالجميع يعلم أنك كُنتَ أطهرَنا سِيرةً وأنْقانا سَريرةً.. ليّنَ العريكةِ في شَمَم ، مؤتمن النقيبةِ في إباء ..بل عني لي فيما عني مزيدًا من الاتساق مع جوهر ما تعنيه الحياة لك من ناحية معرفية وفلسفية، وكما عشتها طوال تلك السنوات زاهدًا عابدًا، لا بسبب ضيق ذات اليد شأنك شأن الغالب من غمارِ الناس، بل حالة من حالات البساطة والزهد كوْن هذه الدنيا لا تستحق وأن الآخرة خيرُ وأبقى ، تلك الجلابية والعِمّة ، كما الحياة، لبستها وعشتها هكذا ، بساطةً دون تعقيد ، واسعة وماهلة ومريحة.. لكنها ذات المبادئ والأخلاق الرفيعة، التي عرفناك بها قبل ذلك خلال سنوات أفنديتك العتيدة كموظف تدرج عبر درجات الخدمة المدنية حتى التقاعد إلى المعاش .. عرفناك كريمًا سخيًا شهمًا نبيلًا مضيافًا مواصلًا للجميع من أهلك وجيرانك ومعارفك.. ترى ما الذي كان يمكن أن يتغير في حياتك وحياتنا نحن فيما بعد لو وافقتَ علي إكمال الدراسة بكلية الصحة جامعة الخرطوم في نهايات ستينيات القرن الماضي بدلًا عن اختيارك العمل لمساعدة أسرتك موظفًا صغيرًا حينها وأفنديًا عتيدًا فيما بعد ؟ .. أذكر جيّدًا كيف كانت علاقات الزمالة في العمل مع زملائك وما يعنيه التقدير والاحترام المتبادل بل وما تعنيه المحبّة.. ظلّ ذلك عهدك خلال سنوات العمل والتوظيف الطويلة في رئاسة ديوان شؤون الخدمة وقناة جونقلي وجهاز المغتربين ووزارة الثقافة وجميع محطات عملك العديدة بذات الأخلاق الرفيعة .. أذكر جميع تفاصيل أفنديتك الموسومة منذ كنتُ أنا في بدايات سنوات الدراسة وعودتك من العمل حاملًا مجلة ماجد كل يوم أربعاء لي ولمرتضى .. ستسألني أيضا يا أبي ( نبدأ ليك من وين؟) .. وسأجيبك أبدأ لي بالصحة يا أبوي .. لأطمئن علي صحتك.. ستطمئنني على صحتك كعادتك.. وستطلب منيّ أن تكلّم الأولاد .. أحمد وأمجد ومهاب وإياد ومنذر ومروان .. وستنشد لهم جميعًا عبر الهاتف نشيد صلوااااااتنا كم؟ صلواااتنا خمسة.. وستنشد لهم أيضًا نشيد أوعك تقطع صفقة شجرة عشان ما يجينا جفاف وتصحر..أجمل قانون للمحافظة على البيئة.. وأنت لا تعلم الآن ما انقطع من أشجارٍ ومبانٍ ومعانٍ .. سأحدثك عن أوضاع البلد والحرب وسأشرح لك بصبْرٍ وأناة معاني كلمات لا تعرفها مثل شفشفة وجغم وفتك ومتك وستكتفي بقولك لا حول ولا قوة إلا بالله ..
اليومُ يوم عرفة يا أبي .. أمي صائمة كعادتها يوم عرفة من كل عام.. نحن بخير ولكن نفتقدك بشدة .. في مثل هذا اليوم من كل عام ، وفي مثل هذا الوقت تستخرج مفكرتك، التي دوّنت بها أرقام الهواتف للأهل والأقارب والمعارف لتبدأ عملية المعايدة والتهنئة بالعيد حتى صباح الغد.. وللحقيقة، هذه العملية تتم أسبوعيًا كل يوم جمعة للسلام وتفقد الأحوال للجميع تقريبًا .. بذات البساطة والسماحة والوسامة.. تستقبل ضيوفك بالصفات ذاتها .. لطالما كنتُ أتساءل يا أبي عن نمط تديّنك وطريقتك ومنهاجك في التعبّد والسلوك ..هل هو تصوّف من نوع خاص ؟ لم أعرف لك قالبًا سلفيًا أو صوفيًا بعينه ، لكنّه نموذج تديّن محبّب طابعه الورع والسماحة والزهد والبساطة دون تكلّف.. يكفي أن أشهد لك ، وأنا ابنك الأكبر أنني طوال حياتي، التي هي جزء ّ من نسيج حياتك المليئة بالصدق والنقاء ، وقد التقيت أنت وتعاملت مع كافة أصناف البشر لم أسمعك يومًا تتحدث عن أحدهم بحقدٍ أو ضغينة.. لم أسمع يومًا منك يا أبي فاحش قول أو فعل.. ألم تلتقِ يومًا بمن يعكر صفوك؟ كنتَ كريمًا طيّبًا عابدًا زاهدًا تقيًّا هاشًا باشًا مع الجميع .. هل هذا هو معنى الدين المعاملة؟ لو قسّمنا ساعات يومك وما تقوم به من أنشطة لوجدنا سائر ساعات يومك في المسجد، تجسيدُ حيّ لمعاني الورع والتقوى والزهد في كلّ شيء من متاع هذه الدنيا .. رأيتُ كثيرًا من العابدين ولكن أسمح لي هل أنت زينهم؟ .. كيف استطعت يا أبي أن تنسِجَ من الزهد فلسفة ومعنى للحياة؟ .. دعني أخبرهم يا أبي وقد تنقلتُ في أرض الله الواسعة بحكم العمل أنك لم تطلب منّي شيئًا حتي فارقت الفانية ، لا مال ولا هاتف حديث ولا أي شيء.. الشيء الوحيد، الذي أذكر أنك قد طلبته منّي هو ( ساعة ) لمعرفة أوقات الصلاة.. كان ذلك قبل عصر الهواتف الذكية ربما .. هل في ذلك إشارة ما أو رمزيةٍ ما كون أن هذه الدنيا عندك ما هي إلّا محضُ ساعة؟ هل كان ذلك مبنيًّا على فلسفة الحياة عندك واختيارك الزهد معنى وقيمةً مجسدةً في اللحم والدم؟ هل كان يعنيك محجوب شريف في أنشودته العذْبة يابا مع السلامة؟
يا كالنخلة قامة
قامة واستقامة
هيبة مع البساطة
أصدق ما يكون
راحة إيديك تمامًا
مِتْل الضفّتين
ضُلّك كم ترامي
حُضنا لليتامى
خُبزاً للّذين هم لا يملكون
بنفس البساطة والهمس الحنون
ترحل يا حبيبي
من باب الحياة
لباب المنون

نحن يا أبي لا نموت حين نفقد من نحب، بل نكمل الحياة بقلبٍ ميّت.. هكذا فداحة الفقد والحُزن .. سنظلُّ نبحث عن ذلك الرضا، الذي وسم محيّاك حتّى آخر لحظة لك على الأرض .. عن تلك السكينة والطمأنينة والسلام الداخليّ، الذي عشت به وعليه جسدًا وروحًا ، حسًّا ومعنى.

لا أعرف متى سأكتب إليك مجددًا يا أبي … لكني أكتب إليك الآن وكُلّي شوقُ إليك ، ونحن في أيام عيد الأضحى المبارك، لست وحدي من يشتاق إليك ويفتقدك الآن .. جميعنا نفتقدك.. نعم أعني جميعنا أسرة وأهل وأقارب وجيران ومعارف وزملاء عمل ورفاق مسجد.. لكنني أعلمُ جيدًا أنك بين لدُنّ واحدٍ أحد ، فردٍ صمَد ، حكيمٍ خبير ، رحمنٍ رحيم، نتوسل إليه أن يشملك ويشمل روحك الطاهرة بفيوض ِ رحمته، التي وسعت كل شيء وأن يجعل لنا قليلًا من سَمْتِكَ وأثرك الباقي فينا وفي الأهل وفي الذريّة إلى يوم أن نلتقيك .. في الضفّة الأخرى .. في جنةٍ عرضها السموات والأرض بإذن الله ..
حتى ذلك الحين تقبّل سلامي ومحبتي.

ابنك المُحب
معتز

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.