في التاريخ الطويل للأمم، غالبًا ما يُختزل النضال في صور الجيوش، أو في شعارات الثورات، أو في كلمات الساسة. إلا أنّ أكثر ما يصمد أمام الزمن ليس الخطاب السياسي ولا البيان الحزبي- فحسب-، بل الأغنية، التي رددتها الجموع، واللوحة، التي رسمت الحقيقة، والقصيدة، التي أضاءت الظلام، والدراما، التي أعادت تعريف الوطن. فالفن ليس زينة للحياة، بل هو عمودها الفقري حين تضطرب، وبوصلتها حين تنحرف، وذاكرتها حين تحاول القوى الكبرى محوها.
الفن هو اللغة التي يفهمها الجميع، والتي لا تستطيع أي سلطة أن تحتكرها أو تزيّفها. ولهذا كان دائمًا حليف الشعوب الأول في معركتها من أجل الحرية، وفي سعيها لبناء الاستقرار والتنمية. إنه الطاقة الناعمة، التي تحوّل المعاناة إلى معنى، والوجدان إلى قوة، والفرد إلى مواطن، والمجتمع إلى أمة.
الفن في لحظة النضال… (حين تصير القصيدة بندقية): في اللحظات الحاسمة من عمر الشعوب، عندما تضيق الأرض وتتعثر السياسة، يتقدم الفن ليقول ما لا تستطيع المدافع قوله. ليس صدفة أن تكون الثورة السودانية قد حملت معها غناء الحماس والطنابير والأهازيج الشعبية؛ وليس صدفة أن تكون الانتفاضة الفلسطينية قد أعادت اكتشاف الشعر، والموسيقى، ورسومات الشوارع. فالفن هنا ليس تعبيراً عن الوجدان فحسب، بل هو تنظيم غير مرئي للقوة الشعبية. فالفنان حين يغني للثورة لا يقدم عملاً جمالياً، بل:
• يفتح ممراً نفسياً للجرأة
• يخلق هوية مشتركة للمتظاهرين
• يحوّل الحشود من (أفراد) إلى (جسد واحد (
• ويمنح الحركة الاحتجاجية أخلاقها ورمزيتها ولغتها
كل ثورة عظيمة كانت لها موسيقاها.
كل حركة تحرر كان لها شعراؤها.
كل نضال قومي كان له رساموه ومسرحيوه ومخرجوه.
ولهذا، فإن قمع الفن هو أول مؤشّر على خوف السلطة من الشعب، لأن الفن هو القناة الوحيدة التي لا يمكن ضبطها: إنه يسري مثل النار في الهشيم، لا يحتاج إلى حزب ولا منصة، ولا يلتزم بحدود الدولة أو رقابة الأجهزة.
الفن كحامل للهوية القومية… الذاكرة التي لا تُقهر: الأمم لا تبنى بالاقتصاد وحده، ولا تتحصن بالجيوش وحدها.
الأمم تُبنى حين يكون لها قصة مشتركة، وذاكرة واحدة، وصورة للعالم ترى نفسها من خلالها. وهنا يأتي دور الفن بوصفه:
• مؤرخاً غير رسمي
• ومقاوماً ثقافيًا
• ومهندسًا للوعي الجمعي
في الوطن العربي، كان الفن دائمًا طليعة القومية: من أم كلثوم، التي وحّدت الشعور العربي أكثر من كل مؤتمرات الجامعة العربية، إلى فيروز، التي جعلت بيروت رمزًا للإنسان العربي، إلى السينما المصرية والسورية والعراقية، التي شكّلت المخيال العربي في النصف الثاني من القرن العشرين.
الفن يجعل الإنسان العربي يرى نفسه في الإنسان العربي الآخر. يجعل السوداني يعرف أن قضيته ليست معزولة، والفلسطيني يشعر أن روحه موزعة في كل العواصم العربية. وبذلك، فهو يُنتج وحدة وجدانية تسبق الوحدة السياسية وتؤسس لها.
الفن في النضال القومي العربي… من العراق إلى الأحواز وفلسطين: لم يكن النضال القومي العربي في تاريخه المديد حركة سياسية فقط، بل كان أيضًا مشروعًا جماليًا يصوغ وعي الأمة العربية ويعيد تشكيل خيالها الجمعي.
فعندما خاض العراق معركته التاريخية في بناء الدولة الوطنية الحداثية خلال العقود السابقة، كان الفن حجر الأساس في تلك النهضة. لم تكن الأغاني الثورية، ولا القصائد الملحمية، ولا السينما الوطنية عملًا ترفيهيًا؛ بل كانت مشروعًا لتشييد روح الأمة العربية في مواجهة الطائفية والتجزئة والاستلاب. وفي الأحواز، حيث يسعى الشعب العربي للحفاظ على لغته وهويته تحت ظروف القمع والطمس، أصبح الشعر الشعبي، والأغنية المقاومة، والرسم الجداري، وسرد الحكايات الشعبية أدوات لتحصين الذات العربية ضد محاولات الاقتلاع. الفن هنا ليس مجرد تعبير؛ إنه وسيلة لاستعادة الوجود المهدد. أما فلسطين، فقد تحوّلت عبر تاريخها إلى النموذج الأوضح لالتقاء الجمال بالنضال. فالدبكة لم تعد رقصة فحسب، بل إعلان هوية. والقصيدة الفلسطينية لم تعد شعراً، بل وثيقة مقاومة. والملصق والفيلم والرسم الكاريكاتوري صاروا أسلحة في مواجهة الاحتلال، تُبقي الذاكرة حية وتعيد تعريف الحق بطريقة لا يمكن للمؤسسة العسكرية كسرها. إن الفن في ساحات العراق وفلسطين والأحواز لم يكن تابعًا للنضال السياسي، بل شريكًا فيه، وأحيانًا القائد الروحي له. فحين تهتز السياسة وتضيع البوصلة، يبقى الفن هو الجذر الحي، الذي يذكّر الأمة العربية بامتدادها الواحد، وبأن المعركة ليست معركة حدود، بل معركة معنى ووجود ومصير مشترك.
الفن وصناعة الاستقرار… حين يتحول الجمال إلى سياسة عامة: من يظن أن الاستقرار يُصنع بالقوة فقط، لا يعرف شيئًا عن علم الاجتماع السياسي. فالمجتمع المستقر هو مجتمع قادر على:
• التعبير عن نفسه
• تفريغ توتراته
• رؤية ذاته في مرآة الفن
• إيجاد صيغة مشتركة للأمل
الفن يخفّف الاحتقان، يفتح مساحات الحوار، يكسر الهوة بين المواطن ومؤسسات الدولة، ويعيد للناس الثقة بأن حياتهم تستحق أن تُرى وتُعبِّر. الدول، التي تهمل الفن تعاقب نفسها؛ لأنها تترك مواطنيها بلا معنى… والمجتمع بلا معنى مجتمع سريع الانفجار. فالفن لا يمنع العنف بوسائل أمنية، بل يمنع ضرورتَه أصلًا.
الفن والتنمية… (تحويل الوجدان إلى إنتاج): في الاقتصاد الحديث، تتقدم الأمم التي تملك:
• الاقتصاد الإبداعي
• الصناعات الثقافية
• الهوية الجمالية الخاصة بها
فالفن اليوم ليس فقط أداة نضال، بل رافعة اقتصادية وتنموية. الدول الذكية تحوّل ثقافتها إلى منتجات، وموسيقاها إلى صناعات، وتراثها إلى سياحة، ودرامتها إلى قوة ناعمة تؤثر في موازين العلاقات الإقليمية. وقد ثبت أن كل دولار يُستثمر في الصناعات الثقافية يخلق وظائف أكثر من أي قطاع آخر، لأنها قطاعات تعتمد على الإنسان قبل رأس المال. الفن أيضاً يخلق الانتماء، والانتماء يخلق العمل المنتج، والعمل المنتج يصنع التنمية المستدامة.
الفن كمشروع تحرر… (حين يلتقي الجمال بالحرية): في جوهره العميق، الفن مشروع تحرر.
تحرر من القبح، من القمع، من الجهل، من النمطية. والشعوب التي تنتج فناً عظيمًا هي شعوب تمتلك القدرة على مقاومة كل أشكال السيطرة، لأن الفن لا يقبل الخضوع: لوحة واحدة قد تهزم رواية دولة كاملة،
وأغنية واحدة قد توقظ جيلًا كاملًا، وفيلم واحد قد يُسقط خطابًا سياسيًا بائسًا. فالفن يحرّر الإنسان من الداخل، وما يتحرّر من الداخل لا يُهزم من الخارج.
الفن والإنسانية:( الارتقاء بالوجود البشري): يمتلك الفن قدرة فريدة على ملامسة جوهر الإنسان العميق، إذ يعبر عن المخاوف والرغبات والأحلام المشتركة، التي تتجاوز حدود اللغة والجغرافيا. فالفنان، حين يخلق عملًا جماليًا صادقًا، إنما يحرّك في الإنسان حسه الأخلاقي وقدرته على التعاطف، ويذكّره بإنسانيته الأولى. هنا يصبح الفن وسيلة لتحرير الروح من القسوة، ونافذة لفهم الآخر، وجسراً يربط بين الشعوب عبر مشتركها الإنساني. لذلك يتجاوز الفن دوره التعبيري ليصبح قوة أخلاقية — تُهذّب الوعي، وتعيد صياغة علاقة الإنسان بذاته وبالعالم، وتمنحه القدرة على الطموح نحو حياة أكثر كرامة وجمالاً.
خاتمة: (الفن ليس ترفًا… إنه مستقبل الأمم): حين ننظر إلى طريق التحرر الوطني، وإلى معارك الوعي والهوية، وإلى معركة بناء الدولة الحديثة، سنجد أن الفن ليس لاعبًا ثانويًا في أي منها. بل هو المحرّك الصامت، والمشعل الذي لا ينطفئ، والحارس الذي لا ينام.
الفن هو ما يجعل الأمة أمة. وهو ما يجعل الثورة ثورة. وهو ما يجعل التنمية ممكنة، والاستقرار قابلاً للتحقق، والمستقبل قابلًا للتخيّل. إن أمّة بلا فنّ… أمة بلا خيال. وأمة بلا خيال… بلا مستقبل.
ولهذا، فإن الاستثمار في الفن ليس سياسة ثقافية فقط، بل هو قرار استراتيجي يضع الأمة العربية على سكة التاريخ من جديد.

Leave a Reply