إيقاع التم تم.. سيرة موج الإبداع الذي عصى الترويض

صحيفة الهدف

حسن عثمان علي

يُعدّ إيقاع التم تم واحدًا من الإيقاعات الأصيلة والراسخة في مسيرة الغناء السوداني. ظهر في منتصف ثلاثينيات القرن الماضي، ويُرجع عدد من الباحثين جذوره إلى جبال النوبة. أول ظهور مسجّل له كان في حي الرديف بمدينة كوستي، حيث انتقل الإيقاع إلى المدينة بفعل حركة العمال الوافدين خلال مدّ خط السكة الحديد إلى الأبيض، وكانت رائداته المعروفات باسم “التومات” أم بشائر وأم زوايد.

كيف وصل إلى أم درمان؟

ثمة رأيان يشيران إلى مسار انتقاله: الرأي الأول: كما قالت المطربة عشة موسى (الفلاتية)، فقد انتشر الإيقاع في أم درمان عبر سائقي اللواري الذين نقلوه من مناطق مختلفة. الرأي الثاني: أورده الموسيقار إسماعيل عبد المعين، مؤكدًا أنه هو من نقله بنفسه بعد سماعه لأول مرة في زواج المكي عساكر، ناظر قبيلة الجمع.

ومع صعوده إلى أم درمان، وجد الإيقاع بيئة فنية قابلة لاستيعاب الأنماط الجديدة، خصوصًا بعد قدوم محمد ود الفكي من كبوشية وهو يحمل معه ما يُعرف بـ”غناء السافل”، وصاحب الأغنية التراثية الشهيرة “نوم عيني البقي لي سهر” التي أحياها الراحل الكابلي لاحقًا.

مرحلتان مفصليتان في مسيرته

المرحلة الأولى: مفردة هابطة وإقبال شعبي. ارتبط التم تم في بداياته بكلمات وُصفت بالركاكة، وانتشر وسط مجموعات قاع المدينة، وجلسات الزار، وغناء البنات “السباتة”، لما يمتاز به من حرارة وقوة وقدرته على التنفيس. وقد أدى ذلك إلى ازدهاره رغم رفض المجتمع المحافظ. ومن أشهر مطربي المرحلة: أبو الجوخ وكدفور. ومن أمثلة تلك النصوص: أحي أحي من الكلام النيء في الشاطيء فرمل بي يا ريتو لو صرّح لي يا نفيسة كبي الشراب أسقينا وحاتِك كان تنسّينا

المرحلة الثانية: الارتقاء بالكلمة. أثار انتشار الإيقاع قلق وجهاء وأعيان أم درمان، خشية تأثيره على أغنيات الحقيبة التي قادت الذائقة الفنية منذ 1924م. ونتيجة ضغطهم، تدخّل عبد الرحمن المهدي مطالبًا شعراء الطائفة بكتابة نصوص رفيعة تُهذّب الإيقاع وتحافظ على جمالياته. فكتب سيد عبد العزيز: أنا راسم في قلبي صورة الباسم، البلبل الفنان. وتلودي: سوداني الجوه وجداني بريدو، بفّ نفسك يا القطار. وكتب الصاغ محمود أبو بكر: إيه يا مولاي إيه.

الأصوات النسائية ودور الرواد

شكلت الأصوات النسائية أحد أعمدة التم تم، لملاءمة طبقات أصواتهن الحادة للإيقاع. من أبرزهن: عشة الفلاتية، فاطمة خميس، مهلة العبادية.

جاءت مرحلة التطوير الجاد مع إسماعيل عبد المعين الذي لحن على التم تم مستخدمًا العود لأول مرة. وعبد الرحمن الريح الذي كتب نصوصًا شكّلت منعطفًا مهمًا. لكن النقلة النوعية الكبرى جاءت مع زنقار، الذي استلهم معظم ألحانه من التم تم، وبلغ به ذروة الارتقاء بأغنية “عروس الروض” للشاعر السوري إلياس فرحات.

التم تم.. لغة جسد وهوية فنية

مع دخول الآلات الموسيقية بعد افتتاح الإذاعة في الأربعينيات، أصبحت معظم الأغنيات الخفيفة (الكسرات) تُلحّن على التم تم حتى أصبح الإيقاع الأكثر انتشارًا، حتى شُبّه بـإيقاع السامبا في البرازيل لملامسته الوجدان الإفريقي وقدرته على التعبير عن لغة الجسد والغناء الجماعي.

فنون تعلو فوق السياج

إيقاع التم تم ليس مجرد ضربات طبول، بل هو سيرة مجتمع بحالاته المتقلبة. إيقاع صادق يعكس الفرح والوجع، الهبوط والصعود، وهو شاهد على تطور الذائقة السودانية منذ قرن.

ختامًا: افتحوا للفنون نوافذها كي تنساب بلا عوائق. فهي إحدى ممسكات الوحدة التي عجزت عنها السياسة. ولننهض بالذائقة التي طالها العطب، حتى لا نستبدل صوت العصافير.. بـ”غناء البوم”.

 #إيقاع_التم_تم #الغناء_السوداني #التراث_السوداني #زنقار #حقيبة_الفن #جبال_النوبة #الموسيقى_السودانية #ملف_الهدف_الثقافي

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.