اقتصاد الغضب: كيف يمكن تحويل الاحتجاجات إلى مشاريع تنموية؟: (تحويل الطاقة الثورية إلى طاقة إنتاجية)

صحيفة الهدف

بقلم:

أ‌. طارق عبد اللطيف أبوعكرمة أ. ماجد الغوث

في عالم يشهد تصاعدًا غير مسبوق للاحتجاجات الشعبية، يبرز سؤال مصيري: هل يمكن تحويل طاقة الغضب الاجتماعي من قوة هدامة إلى قوة بناء؟ هذا المقال يقدم رؤية جديدة لتحويل الأزمات السياسية إلى فرص تنموية.
في لحظات الانفجار الاجتماعي، حين تمتلئ الشوارع بالغاضبين ويصير الهتاف لغةً جماعية، يظنّ الكثيرون أن الغضب مجرّد انفعالٍ عابر، أو طاقة مدمّرة. لكن القراءة الفلسفية للتاريخ الاقتصادي تكشف أن الغضب حين يوجَّه ويُنظَّم، يمكن أن يتحوّل من طاقة احتجاجية إلى طاقة إنتاجية، ومن صوت يطالب بالحقوق إلى قوة تبنيها.
الغضب، كما يصفه الفيلسوف سبينوزا، ليس انفعالًا سلبيًا بل طاقة حيوية تنتظر من يوجّهها. وإذا كانت الثورات الشعبية هي أعلى درجات التعبير عن (سوء توزيع السلطة)، فإن التنمية هي أعلى درجات التعبير عن (إعادة توزيع القوة). هكذا يصبح السؤال: هل يمكن تحويل الغضب الشعبي، الذي يفجّر الشوار، إلى مشاريع اقتصادية تعيد بناء ما دمّرته السياسات الخاطئة؟
كما يرى الفيلسوف الألماني بيتر سلوتردايك، بأن: الغضب ليس مجرد رد فعل، بل هو (نقد مادي) للنظام القائم. وهكذا يصبح الاحتجاج شكلاً من أشكال (المحاسبة الاجتماعية الحية).
إن التجارب الحديثة، من أمريكا اللاتينية إلى شرق آسيا، تشير إلى أن الجواب ليس فقط نعم، بل إن الدول التي نجحت في تحويل موجات الاحتجاج إلى برامج تنموية طويلة الأمد، هي الدول نفسها، التي تحوّلت من أزمات سياسية طاحنة إلى نهضات اقتصادية متماسكة.
1. الغضب كطاقة اجتماعية لا كفوضى: الغضب ليس عشوائية. بل هو، كما يراه علم الاجتماع، “اختلال في العقد الاجتماعي”، لحظة يُدرك فيها الناس أن التنمية توقّفت، أو أن الدولة انفصلت عن المجتمع. هذه اللحظة إذا لم يتم قمعها تتحوّل إلى فرصة نادرة لإعادة بناء القواعد السياسية والاقتصادية للدولة.
فالاحتجاج ليس (ضد التنمية)، بل هو صرخة تطالب بعودة التنمية الحقيقية.
والمجتمع الغاضب ليس مجتمعًا يريد الهدم، بل مجتمعًا يريد المشاركة.
2. من الشارع إلى ورشات الإنتاج: كيف يحدث التحوّل؟: لكي يتحوّل الغضب إلى تنمية، تحتاج الدولة والمجتمع إلى ثلاث مراحل مفصلية:
أ‌. تحويل المطالب إلى سياسات: الاحتجاجات تحمل دائمًا قائمة غير مكتوبة من المطالب الحقيقية:
– عدالة توزيع الموارد
– إنهاء الفساد
– تحسين الخدمات
– خلق الوظائف
تتحوّل هذه المطالب، إذا صيغت في برامج واقعيك، إلى أساس خطة تنمية وطنية.
ب‌. تحويل الجماهير إلى شركاء: الطاقة التي حشدت الناس في الشوارع، هي نفسها يمكن أن تحشدهم في:
– التعاونيات الإنتاجية
– شركات الشباب الناشئة
– مشاريع إعادة الإعمار
– مشروعات الاقتصاد الاجتماعي
إن الجماهير التي تصنع التغيير في لحظة سياسية، تستطيع أن تصنع التنمية في لحظة اقتصادية.
ت‌. تحويل الفوضى إلى مؤسسات: لا تنمية في ظل غياب المؤسسات. والمؤسسة الوحيدة التي تولد من الاحتجاج هي المؤسسة التي تسمح بالمحاسبة والمشاركة. حين تولد مؤسسات جديدة، تتراجع النزاعات، ويبدأ الاقتصاد في التحرك وفق منطق المشاركة لا منطق الاحتكار. آلية التحول المؤسسي:
– آليات انتقالية من الحراك الشعبي إلى المؤسسات الدائمة
– نماذج حوكمة جديدة (المجالس المحلية المنتخبة)
– أنظمة محاسبة وشفافية مؤسسية
3. تجارب دولية: الغضب، الذي أصبح ثروة:
أ‌. تشيلي: بعد احتجاجات 2019، تم تحويل مطالب الشباب إلى إصلاحات في التعليم، والضرائب، ودستور جديد يمنح فرصًا أكبر للتنمية المحلية. كما ارتفع الاستثمار الاجتماعي بنسبة 15%، وتم تخصيص 5 مليارات دولار لبرامج الشباب.
ب‌. كوريا الجنوبية: في الستينيات، كان الشارع يغلي بالغضب من الفساد. لكن الدولة حولت الغضب إلى “حركة تنمية قومية”، قادت إلى الثورة الصناعية الكورية. وتحولت من معدل نمو 3% إلى 10% بعد تحويل الغضب إلى سياسات صناعية.
ت‌. تونس (مرحليًا): كانت ثورة 2011 بداية إعادة توزيع بين المركز والجهات المهمّشة، رغم التعثرات اللاحقة.
هذه التجارب تؤكد أن الغضب — إذا أُدير جيدًا — ليس تهديدًا، بل رأس مال اجتماعي واقتصادي.
ث‌. التجربة السودانية: مخاض التحول من الدكتاتورية الدينية إلى الاقتصاد المنتج: لم تكن انتفاضة ديسمبر 2018 الثورية، مجرد احتجاج عابر، بل كانت ثورة غضب منظمة ضد ثلاثية الدمار: الاستبداد السياسي، والفساد الاقتصادي، والتطرف الديني المقنع. لقد نجح الغضب السوداني في:
– هزيمة أطول نظام دكتاتوري في المنطقة (30 عاماً)
– كشف زيف الاقتصاد الإسلاموي الذي كان غطاءً لنهب منهجي
– خلق وعي جمعي بأهمية الربط بين الحرية السياسية والعدالة الاقتصادية
لكن الدرس السوداني الأهم هو أن إزالة الدكتاتورية لا تكفي. فبعد سقوط النظام، واجهت الثورة:
– فراغاً اقتصادياً خلفته سياسات التدمير المنهجي
– استمرار هيمنة الاقتصاد الريعي الحربي
– غياب الرؤية الاقتصادية البديلة الواضحة
اليوم، والسودان يعاني من حرب جديدة، يبقى السؤال: كيف يمكن تحويل غضب السلام إلى اقتصاد سلام؟ الجواب يكمن في:
– ربط المصالحة الوطنية بالعدالة الاقتصادية
– تحويل مؤسسات الثورة إلى مؤسسات تنموية دائمة
– بناء اقتصاد منتج يحل محل اقتصاد النهب والريع
التجربة السودانية تثبت أن الغضب الثوري هو البداية فقط، وأن البناء الاقتصادي الديمقراطي هو الاستمرارية الحقيقية للثورة.
4. تجارب إقليمية: اقتصاد الغضب في سياقات الاحتلال والتمييز
أ‌. العراق: غضب ضد اقتصاد المحاصصة: شكلت احتجاجات تشرين 2019 ذروة الغضب على النموذج الاقتصادي الطائفي الذي أسسه الاحتلال الأمريكي. حيث تحولت ثروة نفطية تقدر بـ 450 مليار دولار منذ 2003 إلى غنائم سياسية، بينما بقيت البطالة بين الشباب عند 36%. تحاول المبادرات الشعبية تحويل هذا الغضب إلى اقتصاد تعاوني موازٍ لاقتصاد الفساد.
ب‌. فلسطين: من غضب الاحتلال إلى اقتصاد المقاومة أتقن الفلسطينيون تحويل الغضب إلى اقتصاد صمود:
– مقاطعة اقتصادية كأداة سياسية فعالة
– زراعة مقاومة توفر 65% من الاحتياجات الغذائية في الضفة
– تعاونيات إنتاجية في غزة تتحدى الحصار، لكن التحدي يبقى في قفزة نوعية من اقتصاد البقاء إلى اقتصاد التحرر.
ت‌. الأحواز: الغضب المكبوت واقتصاد الهوية: يواجه شعب الأحواز تمييزاً اقتصادياً ممنهجاً، حيث تنتج منطقته 85% من نفط إيران ولا تحصل إلا على 3% من عائداته. هذا الغضب المزدوج (اقتصادي وهوياتي) يبحث عن نموذج لـاقتصاد عربي مقاوم داخل الجغرافيا الإيرانية.
الدرس الجوهري: في سياقات الاحتلال والتمييز، يصبح الغضب استراتيجية بقاء اقتصادية قبل أن يكون احتجاجاً سياسياً. والتحول الأصعب هو تحويل اقتصاد الغضب إلى اقتصاد التحرر.
5. اقتصاد الغضب: نحو نموذج جديد للتنمية: النموذج المقترح يقوم على فكرة بسيطة وعميقة:
الطاقة الثورية يجب ألا تُخمد بالقمع، بل تُوجَّه بالإصلاح. ويعتمد النموذج على أربعة محاور:
أ‌. إدماج الشباب في الاقتصاد الإنتاجي: عبر حاضنات أعمال، وتمويل صغير، وتدريب مهني متقدم.
ب‌. إنشاء اقتصاد اجتماعي تضامني: تعاونيات زراعية، صناعات صغيرة، مشاريع مجتمعية.
ت‌. لامركزية التنمية: تحويل الغضب الجهوي إلى خطط تنمية محلية تشاركية.
6. بناء نظام سياسي شفاف: الشفافية هي الضمان الوحيد لعدم عودة الغضب إلى الشارع. لكن التحول من الغضب إلى التنمية ليس مساراً مضموناً. فهو يحمل مخاطر:
أ‌. خطر تحويل الغضب إلى استقطاب سياسي
ب‌. صعوبة الحفاظ على الزخم الثوري طويل الأمد
ت‌. احتمال استغلال النخب الحاكمة للغضب الشعبوي
الاحتجاجات ليست نهاية الدولة… بل بدايتها الجديدة
الدول التي تتعامل مع الغضب كجريمة تُغلق على نفسها أبواب المستقبل. أما الدول التي تتعامل معه كطاقة، فإنها تفتح أبوابًا لم تكن ممكنة. الغضب ليس خطرًا ينبغي إخماده، بل طاقة ينبغي هندستها. والمجتمع الذي يستطيع تحويل لحظة غضبه إلى برنامج للبناء، يكون قد حوّل التاريخ نفسه من قوة تهدمه… إلى قوة ينهض بها.
الخلاصة: (حين يُعاد توجيه الغضب، يصبح مشروعًا وطنياً، لا احتجاجاً عابراً (: الغضب هو المادة الخام للتغيير.
والمجتمعات التي تنجح ليست تلك التي تخلو من الغضب، بل تلك التي تعرف كيف تضعه في المكان الصحيح،
وقت الحاجة الصحيحة، وبالمنهج الصحيح. فالطاقة الثورية، إذا أُحسن استثمارها، تتحول إلى طاقة إنتاجية تُعيد بناء الدولة، وتُرمم الاقتصاد، وتفتح الطريق نحو مستقبل تشاركي أكثر عدلاً وازدهاراً.

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.