سلامٌ عليك يا ياسر عوض.. رحل الجسد وخلدت المواقف

صحيفة الهدف

ماهر أبو جوخ

نعى الناعي، صباح يوم الأربعاء 19 نوفمبر 2025م، صديقي ياسر عوض الذي انتقل إلى رحمة الله تعالى في العاصمة القطرية الدوحة بعد معاناة طويلة مع مرض ألزمه السرير الأبيض بمشفاه لفترة طويلة، حتى اختاره الله تعالى لجواره. لا أزعم أنني من اللصيقين بالراحل ياسر عوض لسنوات طويلة، رغم أن كِلَينا جمعتنا منطقة الدروشاب شمال كسكن ومستقر. وأذكر، في هذا السياق، أن أول لقاء جمعني بشخصه كان في العمل العام المشترك خلال التعبئة الشعبية التي انتظمت بلادنا بعد جريمة فضّ اعتصام القيادة العامة، بعد تكليفي بالحديث في المخاطبة الجماهيرية بمنطقة الدروشاب شمال، حيث كان الراحل ياسر عوض ضمن العاملين والفاعلين في التنظيم والترتيب لهذه الفعالية التي مثلت أحد الأدوات التي استخدمتها القوى المدنية للتواصل الجماهيري المباشر بعد قيام سلطة المجلس العسكري بقطع اتصالات الإنترنت. بفضل هذا التواصل الجماهيري المباشر في التعبئة، نجح شعبنا في زلزلة أركان الطغيان وقطع الطريق على المحاولة الأولى لإجهاض انتصار ثورة ديسمبر المجيدة عبر جريمة فضّ الاعتصام في الثالث من يونيو 2019م؛ حينما جاء الرد الشعبي في الثلاثين من يونيو من ذات العام. يومها أثبت وأكّد شعبنا تمسكه بأهدافه وتطلعاته المشروعة في الحرية والسلام والديمقراطية. وكان الفقيد الراحل ياسر عوض من تلك الكوكبة النيرة التي عملت فوق الأرض من أجل تلك اللحظة التاريخية. التقيت بالراحل للمرة الثانية بعد تكليفي بالعمل مديرًا لإذاعة وتلفزيون ولاية الخرطوم خلال المرحلة الانتقالية. وبحكم ترددي على مقري الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون “السودان” ومبنى إذاعة وتلفزيون ولاية الخرطوم، إذ كنت أشغل موقع مدير الإدارة العامة للأخبار والشؤون السياسية بالهيئة العامة، عملنا وقتها بشكل متكامل في تنسيق الرسالة والمحتوى والانتقال بالإعلام الرسمي من ضيق الشمولية والحزب الواحد صوب إعلام مواكب لأهداف ثورة ديسمبر في الحرية والسلام والعدالة والوحدة والحكم المدني الديمقراطي، يعبر عن آمال الناس ويُعلي من قيمة الحوار الحر، ويسمع صوت الناس، ويحفزهم، ويعزز لديهم الأمل، ويقدم الحقائق الكاملة. ومن المهم، والإدلاء بشهادة الحق، الاستدلال بموقف شخصي مع الراحل حينما طلبتُ منه منح مجموعة من الشباب الذين ظلوا في “حوش الإذاعة والتلفزيون” سنواتٍ دون أن يحصلوا على فرصة، فطلبتُ منه إتاحة المجال لهم للظهور عبر فضائية ولاية الخرطوم في البرامج الرمضانية لعام 2021م. حينها سارع الرجل بالترحيب دون تردد، طالما أنهم من الشباب السودانيين الباحثين عن الفرص. وللأمانة، فقد تحمّل بكل شجاعة مخاطر الدفع بهم في لقاءات مباشرة على الهواء، ومنحهم الثقة، وكسر حاجز الرهبة لديهم، ومنحهم فرصة غير مسبوقة. والأهم أنه لم يستفسر عن توجهاتهم السياسية أو الحزبية، معتبرًا أن الواجب يحتم منحهم الفرص بوصفهم شبابًا يسعون إليها بجدارة. وحينما حلّت كارثة انقلاب 25 أكتوبر 2021م، والتي بلغت ذروتها باندلاع ح.رب أبريل 2023م، لم يتردد الراحل ياسر عوض في اتخاذ الموقف الصحيح تاريخيًا ووطنياً وأخلاقياً وثورياً بإصدار الموجهات للعاملين بإذاعة وتلفزيون ولاية الخرطوم بإيقاف بثهما، في إطار مقاومة الانقلاب ودفاعًا عن تطلعات الشعب السوداني المشروعة. ورفض أن يتحمل أيّ من العاملين مسؤولية القرار، متحملًا المسؤولية كاملة، مع علمه بتداعيات هذه الخطوة، بدءًا بفقدان منصبه وموقعه، وصولاً للاعتقال أو حتى التصفية. ولم تقتصر شجاعته على ذلك، بل “زادها قنطارًا” عندما استدعاه لواء من التوجيه المعنوي بالجيش وطلب لقاءه. واجهه اللواء بتهديد ووعيد مطالبًا بإعادة التشغيل الفوري، فردّ الراحل بحسم وشجاعة بأنه أصدر قرار الإيقاف باعتبار أن القناة ملك للشعب الذي يخوض معركة مصيرية. وبعد نقاش انتهى بتراجع لهجة اللواء، خرج الراحل متمسكًا بموقفه حتى النهاية. غادر بعدها إلى مكتبه بشارع النيل بأم درمان، ليُختَطَف لاحقًا من قبل ملثمين ويُؤخَذ إلى معتقل “الثلاجات” الشهير بالبرودة الشديدة. وقد كنتُ شخصيًا من بين المعتقلين هناك. وكان اعتقاله وما دار من نقاش حوله لاحقًا مصدرًا للضحك والمرح بينه وبين الرفاق، إذ كان يقول دائمًا: “رب اعتقالٍ خيرٌ من ألف موعد ولقاء”. وقد كشفت لنا فترة الحبس الانفرادي خصالًا جديدة عنه؛ كان صبورًا، صامدًا، قادرًا على زرع الأمل، يشحذ الهمم، ويخفف عتمة المعتقل بإيمان راسخ بأن الشعب السوداني منتصر إذا أراد. رحم الله الفقيد ياسر عوض، وألزم أسرته وأهله ورفاقه وكل القوى المدنية الديمقراطية حسن العزاء، وجعل كل كلمة حق وخير كتبها علمًا نافعًا له وأجرًا ممتدًا لا ينقطع. ﴿إنا لله وإنا إليه راجعون﴾

#ملف_الهدف_الثقافي #ياسر_عوض #ماهر_أبوجوخ #مواقف_تاريخية #ثورة_ديسمبر #السودان #اعلام_حر #الاعتقال #مقاومة_الانقلاب

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.