بقلم: إحسان الله عثمان
الانتقالات في التشكيل والرواية والقصة والنقد والمسرح والموسيقى
أواخر الثمانينيات وبداية التسعينيات مثلت مرحلة انتقالية في معظم الحقول الإبداعية بسبب التحولات السياسية والاجتماعية الكبرى (الانقلابات، الحروب، الهجرة، العولمة، وتبدل أنماط النشر والتلقي). هذه المرحلة شهدت تراجع بعض الأسماء الكبرى من جيل الستينيات والسبعينيات (الذين ارتبطوا بمشاريع النهضة والتجريب والتجديد) وصعود أسماء جديدة أكثر انفتاحًا على خطاب ما بعد الحداثة والتجريب اللغوي.
لم تكن التحولات مجرد انتقال بل تحولا في المرجعيات الثقافية نفسها؛ من المشروع الجماعي والأيديولوجي إلى المشروع الفردي والتجريبي. بمعنى آخر نحن لا نتحدث عن تتابع أجيال فقط بل عن انكسار في الرؤية وولادة أسئلة جديدة فرضتها الظروف السياسية والاجتماعية والتقنية.
في الرواية والقصة الانتقال واضح حيث الرواية صارت أكثر حضورًا مع تراجع القصة القصيرة نسبيًا. ظهرت روايات تركز على التجربة الذاتية، الشتات، الح-رب، المنفى، والهويات المتعددة. جيل ما بعد الثمانينيات ابتعد عن الأيديولوجيا المباشرة وركز على السرد كمساحة للبحث عن المعنى.
النقد الأدبي صار أكثر انفتاحًا على المناهج البنيوية، السيميائية، ما بعد الكولونيالية ونقد الخطاب لكن في المقابل النقد الصحفي والإعلامي شهد تراجعًا في العمق لصالح “القراءة السريعة”.
في التشكيل جيل الستينيات والسبعينيات كان مشغولًا بالهوية القومية والرمزية الكبرى بينما جاء جيل التسعينيات وما بعده بميول نحو الفردانية وتفكيك الرموز والتواجد الفني بين المحلي والعالمي.
المسرح عانى من التراجع نتيجة الظروف السياسية والاقتصادية لكنه أيضًا شهد محاولات جديدة لتجريب أشكال بديلة (مسرح الشارع، مسرح المقهى والعروض الفردية).
في الموسيقى الانتقال ظهر في صعود أنماط جديدة مثل الأغنية الشبابية السريعة مقابل تراجع “الكلاسيكيات” التي ميزت الأجيال السابقة.
إذا حاولنا رسم ملاح الجيل الجديد الصاعد من الأدباء والكتاب والمثقفين ومدى جدارته في ملء الفراغ، الذي خلًفه الجيل القديم يمكننا أن نلحظ عدة سمات بارزة في المجال الإبداعي والثقافي أهمها:
– كان جيل الستينيات والسبعينيات مثقلًا بالهم القومي والسياسي لكن نجد الجيل الجديد أكثر التفاتًا إلى التجارب الفردية وقضايا الهامش (الهوية الجندرية، الاغتراب، الأسئلة الوجودية)، مع حساسية مرهفة تجاه الألم الإنساني اليومي.
– التقاطع مع الوسائط الحديثة إذ لم يعد الإنتاج الثقافي محصورًا في الكتاب المطبوع أو العرض المسرحي الكلاسيكي. هذا الجيل ينشط في فضاءات رقمية (وسائل التواصل، المنصات الصوتية والبصرية والمجلات الإلكترونية) ويجعل من “التكنولوجيا” أداة للتعبير والنشر والتأثير.
– تجريبية الأسلوب والبحث عن هوية جديدة حيث يميل كثيرون منهم إلى كسر القوالب سواء في الشعر (قصيدة النثر، النص المفتوح) أو في السرد (تفكيك الشكل التقليدي للرواية والقصة) أو في الموسيقى (الدمج بين التراث والإلكتروني) وهذا يعكس روح القلق والبحث عن صوت خاص.
– التغذي على مصادر متنوعة من التراث الشعبي والثقافة الكونية (السينما، الموسيقى العالمية، الرواية المترجمة). وهذا المزج بين المحلي والعالمي يمنحه بعدًا جماليًا معرفيًا متنوعًا
– تميز الجيل الجديد بسلاسة في العبور بين الأنواع الإبداعية فالكاتب قد يكون شاعرًا، موسيقيًا، صانع أفلام قصيرة، كاتب مقالة أو محتوى بصري في آن واحد. لم يعد الانتماء لجنـس أدبي واحد قدرًا لا فكاك منه.
– المشهد الثقافي يشهد دخول جيل جديد وظهور أصوات جديدة تكتب بعيدًا عن الأيديولوجيا الثقيلة، التي كبلت الأجيال السابقة ويبحث عن لغة أكثر ذاتية وتجريبًا تضيف تنوعًا في الأنماط والأساليب في الرواية والقصة والنصوص الهجينة والكتابة المفتوحة على الفنون البصرية والموسيقية.
الأدب والفن ـ بوصفهما حساسية استباقية ـ التقطا إشارات التصدع في البناء الوطني مبكرًا في الشعر، القصة، الأغنية، المسرح وظهرت نبوءات صريحة أو رمزية بانفجار العنف لكن هذا الاستباق ظل في خانة الفن لا السياسة، في خانة التحذير لا القرار بمعنى؛ الثقافة رأت الكارثة لكنها لم توقفها.
الأثر المتوقع أن تخلفه الح-رب على الوضع الثقافي بالتأكيد ستترك أثرًا مدمرًا على الحياة الثقافية لكنها أيضًا ستصبح مادة تأسيسية لنهضة جديدة. وكما أن الح-روب الأوروبية ولّدت تيارات فلسفية وأدبية كبرى (الوجودية، السريالية والواقعية) فمن المرجح أن تشهد الساحة السودانية – ما بعد الح-رب- أدبًا جديدًا أكثر جرأة يواجه المحرمات السياسية والاجتماعية ويكتب من منظور “الناجي” لا “المؤدلج”..
الح-روب الكبرى عادة ما تخلف أزمة مزدوجة في الحقل الثقافي وانكماش وخراب وانهيار البنية التحتية الثقافية (دور نشر، مسارح، معاهد، مكتبات)، ويتشتت المبدعون بين المنافي والمخيمات ويستبدل الناس حاجتهم للكتاب بالحاجة إلى الخبز والدواء. المفارقة أن هذه اللحظات المأساوية غالبا ما تولد طاقة تعبيرية هائلة. في قلب الدمار تصبح الثقافة وسيلة للنجاة وتتحول إلى أداة مقاومة وحفظ للذاكرة.
من المتوقع ان تكون ملامح أدب وفن ما بعد الح-رب تحمل سمات واضحة يمكن تلخيصها:
– أدب الشهادة: روايات وقصص تسجل تفاصيل الخراب والشهادة على الجوع والقتل واللجوء.
– أدب المنفى والشتات: بسبب الحرب ونزوح الملايين سوف نرى نصوصا تُكتب من المنافي ومحطات الغربة والشتات…
– الفن التشكيلي والموسيقى سيتحولان إلى وسائط بصرية وصوتية لتوثيق الألم والاحتجاج. الرسم سيحتضن رموز الحرب (الخراب، الأنقاض، النزوح) والموسيقى ستبحث عن “لغة كونية” تتجاوز الانقسامات.
– أدب المقاومة والذاكرة ومواجهة النسيان ستكون معركة كبرى لأن هناك من سيحاول طمس أو تزوير الوقائع. الأدب سيكون بمثابة “أرشيف بديل”.
–
وقد تتشكل لغة أدبية جديدة أكثر قسوة، حادة، مشبعة بالمرارة والصدمة وربما مزيج بين العامية والفصحى أو بين لغات الشتات المختلفة..
أبوظبي
نوفمبر 2025م
#جزء من حوار نشر في الملف الثقافي ل ” صحيفة الهدف”

Leave a Reply