ضرورة اتباع نهج شامل يركز على إعادة بناء الاقتصاد والمؤسسات الاقتصادية والاجتماعية، بهدف معالجة الأسباب الجذرية للصراع، بدلًا من مجرد إعادة البناء المادي السطحي.
أظهرت التجارب أن إعادة الإعمار خطوة ضرورية لضمان عدم العودة للصراع مجددًا. تعددت تجارب إطلاق وتنفيذ برامج إعادة الإعمار في مرحلة ما بعد النزاع:
– ما زالت خطة مارشال تُعدّ الخطة الأكبر طموحًا في التاريخ لإعادة بناء أوروبا المدَمّرة بعد الحرب العالمية الثانية، إذ قدمت الولايات المتحدة معونةً كبيرة لإعادة بناء أوروبا، تاركةً لحكومات البلدان المتضررة تحديد أولويات الإنفاق دون تدخل منها، وبموجبها تمكنت ألمانيا من إعادة تأسيس اقتصاد قوي ومستقل.
– على عكس تجربة البوسنة حيث ترتب على الضخ الكبير والسريع لمساعدات إعادة الإعمار تأسيس حالة من الاعتمادية البنيوية للاقتصاد البوسني على المساعدات الخارجية وتحولت إلى سمة مستدامة لاقتصاد البلاد.
– أما التجربة الليبرية والتي امتد فيها الصراع لأكثر من 15 عامًا فقد تداخلت المهام العاجلة كإعادة تأهيل البنية التحتية وتوطين النازحين بمهام تحسين مؤشرات الاقتصاد الكلي.
أما التجربة الرواندية فجديرة بالاهتمام واستخلاص الدروس.
أولويات المرحلة:
– البدء الفوري في تنفيذ الوثيقة الاستراتيجية التي تهدف إلى تلبية الاحتياجات الفورية والتخفيف من الأزمة الإنسانية الماثلة والوشيكة، التي قدمتها منظمات الأمم المتحدة المختصة في مارس 2024 تحت عنوان خطة منع المجاعة 2024، مؤكدة أن الإجراءات الفورية هي المفتاح لمنع انتشار الموت والانهيار التام لسبل العيش وتجنب أزمة الجوع الكارثية في السودان.
– معالجة عدم المساواة والتوترات الاجتماعية والنفسية لتحقيق الاستقرار على المدى الطويل، حيث من المتوقع أن تشهد فترة ما بعد الحرب صراعات من أجل المساواة والعدالة بين مختلف الفئات والمناطق.
– النضال ضد السياسات التي تسمح “للحكومة” باستخدام إعادة الإعمار للمزيد من الفساد والإفساد، ولإعادة بناء الاستبداد باستكمال مطلوبات الإصلاح المؤسسي في القضاء والنيابة العامة والمراجع العامة، لاسيما في حال لم يحدث تغيير لصالح التحول المدني الديمقراطي الحقيقي.
– الإعلام وضبط وسائل التواصل الاجتماعي: من أكثر الوسائل المؤثرة على الرأي العام التي يمكن أن تستخدمها قوى الردة والفلول والقوى التي ارتبطت مصالحها بالحرب، وما تمتلكه من إمكانات وخبرات، لنشر معلومات وإشاعات مضخمة ومضللة تثير خطابات العنف والكراهية. لذا لابد من ضبط ذلك بالقانون أو أي وسيلة أخرى، ولانعتمد على شركات التواصل الاجتماعي التي تسعى لتحقيق الأرباح بغض النظر عن المحتوى.
الانتعاش الاقتصادي:
يعتبر حجر الزاوية في استدامة السلام وتجنب العودة للحرب، وعليه يجب إيلاء هذا الأمر الأولوية القصوى، ولابد من تحقيق معدل نمو أعلى من المتوسط لتجاوز آثار الدمار الذي خلفته الحرب، مع ضرورة ارتباط الإعمار بالتنمية الاقتصادية والتركيز على التمكين الاقتصادي للفقراء والخريجين والأقل دخلًا، بدعم سبل كسب عيشهم، والشروع في تعويض المتضررين، ودعم التعاونيات الإنتاجية والاستهلاكية، والصناعات الصغيرة والمتوسطة، وتذليل الصعاب أمام دور ونشاط القطاع الخاص ضمن تعدد وتوازن وتكامل القطاعات والعمل على إنجاح توطين العديد من الصناعات والاستثمارات الوطنية التي انتقلت من العاصمة إلى أجزاء متفرقة من البلاد.
هذا الانعاش يتطلب توفير موارد ضخمة غير متوفرة حاليًا، ولا نتوقع مارشال آخر، ولكن نستطيع بالاعتماد على الذات وحشد الموارد وسيطرة دولة الرعاية الاجتماعية عليها، من تحقيق ذلك وفق الخطوات والإجراءات التالية:
أولًا: احتكار المورد الوطني:
استنادًا إلى قرار الجمعية العامة 1803 (د-17) لعام 1962 الخاص بالسيادة الدائمة للدول على مواردها الطبيعية، الذي نص على: يتوجب أن تتم ممارسة حق الشعوب والأمم في السيادة الدائمة على ثرواتها ومواردها الطبيعية وفقًا لمصلحة تنميتها القومية ورفاه شعب الدولة المعنية.
يتوجب استناد التأميم أو نزع الملكية أو المصادرة إلى أسس وأسباب من المنفعة العامة أو الأمن أو المصلحة القومية، مسلم بأرجحيتها على المصالح الفردية أو الخاصة البحتة، المحلية والأجنبية على السواء، ويدفع للمالك في مثل هذه الحالات التعويض الملائم وفق القواعد السارية في الدولة التي تتخذ تلك التدابير، ممارسةً منها لسيادتها وفقًا للقانون الدولي. ويراعى، حال نشوء أي نزاع حول مسألة التعويض، استنفاد الطرق القضائية القومية للدولة التي تتخذ تلك التدابير.
يراعى في التعاون الدولي في ميدان التنمية الاقتصادية للبلدان النامية، سواء جرى على صورة استثمارات (رأسمالية) عامة أو خاصة، أو تبادل سلع أو خدمات، أو مساعدة تقنية أو تبادل معلومات علمية، أن يكون مشجعًا للتنمية القومية المستقلة لتلك البلدان، وأن يقوم على أساس احترام سيادتها على ثرواتها ومواردها الطبيعية.
واستنادًا أيضًا لقواعد منظمة التجارة العالمية التي تعزز التجارة الحرة والأسواق المفتوحة، نؤكد على أن تقوم الدولة بتطبيق مبدأ السيادة الدائمة على الموارد الطبيعية، على الأقل في المرحلة الأولى على مستوى التسويق، وليس هناك أي تناقض بين السيادة الدائمة على الموارد الطبيعية وتعزيز التجارة الحرة والأسواق المفتوحة كما تبين قواعد منظمة التجارة العالمية.
أوردنا ذلك حتى لا يخرج علينا “ملكي” مدرسة شيكاغو بأي فرية، ونشير إلى أن أعتى الدول الرأسمالية طبقت هذا المبدأ، ومنها كندا، السويد، ألمانيا، والنرويج.

Leave a Reply