يُعدّ الكركدي من المحاصيل النقدية الأكثر حضورًا في الذاكرة الزراعية السودانية، لكن وضعه الاقتصادي لا يعكس قيمته الفعلية. فبينما يتميّز الكركدي السوداني بنكهته العالية ولونه المركّز الذي يجعله مطلوبًا في الأسواق العالمية، تظل عائداته متواضعة بسبب سلسلة طويلة من العثرات التي تبدأ من الزراعة وتنتهي عند الميناء.
وتزداد هذه التحديات تعقيدًا بسبب شُحّ البحوث العلمية المتخصصة في هذا المحصول المحوري، إذ تندر الدراسات الجادة التي تبحث في تطويره منذ مرحلة الزراعة وحتى الحصاد والتجفيف والتسويق، ما يترك المزارع بلا دليل علمي واضح ويُرسّخ الفاقد عامًا بعد عام.
مناطق الإنتاج وكميات المحصول:
تتركّز زراعته في شمال وجنوب دارفور، وغرب وشمال كردفان، وتمتد جيوب إنتاج في النيل الأبيض وسنار. ويبلغ إنتاجه السنوي، في المواسم الطبيعية بين 25 و35 ألف طن، لكن المتاح للتصدير يتراجع بسبب فاقد كبير في مراحل الجني والتجفيف والنقل.
المشكلات التي تواجه الزراعة والمزارعين:
تبدأ أزمة الكركدي من الأرض نفسها. فالمزارعون يعانون من ضعف الإرشاد الزراعي وغياب التقاوي المحسّنة، فيُزرع الكركدي بطريقة تقليدية تُبقي إنتاجيته منخفضة. كما تتسبب التقلبات المناخية وقلة الأمطار في نضج غير مكتمل، إضافة إلى هجوم الآفات دون وجود برامج رشّ منتظمة.
وتتفاقم المشكلة بسبب شحّ مياه الشرب للعاملين في الحقول، وغياب أدوات الجني المناسبة، ما يرفع نسبة الكسر والتلف. أما التجفيف، وهو المرحلة الأخطر، فيتم غالبًا على الأرض مباشرة، فتتسرّب إليه الأتربة والشوائب، ما يؤدي إلى رفض كثير من الشحنات لاحقًا.
سلسلة النقل.. رحلة العناء:
تواجه مناطق الإنتاج عزلة حقيقية. فالطرقات الوعرة بين قرى دارفور وكردفان تجعل نقل المحصول إلى مراكز التجميع أمرًا مكلفًا وبطيئًا. وفي مواسم الأمطار تُقطع الطرق تمامًا، فيفسد جزء من المحصول قبل أن يصل إلى التاجر. كما يضطر المنتجون إلى الاعتماد على شاحنات صغيرة غير مهيأة، ما يرفع الفاقد ويزيد التكلفة، ويقود في النهاية إلى تسعير ظالم للمزارع.
مشكلات التخزين والتجارة والتصدير:
في المخازن التقليدية يُخلط الجيد بالرديء، وتُستخدم أكياس غير مناسبة، مما يؤدي إلى فقدان اللون والرائحة. كما ينتشر الاحتكار والسمسرة، إذ يشتري الوسطاء المحصول بأسعار متدنية ويصدّرونه دون رقابة حقيقية.
والأسوأ أن غياب معامل فحص معتمدة أدى إلى رفض دول عديدة لشحنات سودانية بسبب التلوث بالغبار أو بقايا المبيدات. وفي بعض الحالات، تدخل شحنات غير مطابقة للمواصفات الأسواق العالمية تحت اسم “كركدي سوداني”، ما أضرّ بسمعة البلاد وفتح الباب لفساد واسع في شهادات الجودة والأوزان.
إمكانات التصنيع المهدرة وفوائده:
رغم أن الكركدي يمكن تحويله إلى مسحوق مركز، وعصائر، ومربات، ومكسبات طبيعية، ومستخلصات طبية، فإن السودان لا يستفيد من هذه السلسلة الذهبية. فالتصدير خامًا يدر أرباحًا محدودة، بينما يزيد سعره بعد التصنيع بأضعاف تتراوح بين 10 و15 مرة. ويوفّر التصنيع وظائف، ويعزّز استقرار المجتمعات الريفية، ويمنح السودان قوة تفاوضية في الأسواق.
خاتمة وتوصيات:
الكركدي ليس مجرد زهرة تُزيّن الحقول، بل فرصة اقتصادية ناضجة تُهدر عامًا بعد عام. ولتحويله من محصول منكوب بالفاقد إلى رافعة اقتصادية حقيقية، لا بد من رؤية واضحة تُعلي من قيمة العلم والتنظيم. تبدأ هذه الرؤية بإنشاء برامج بحثية متخصصة لتطوير التقاوي وتحسين أساليب الزراعة والحصاد، وتليها إقامة مراكز تجفيف حديثة تضمن جودة ثابتة ومطابقة للمواصفات العالمية. كما يتطلب الأمر تطوير طرق النقل وفتح الطرق الريفية، وإنشاء معامل فحص معتمدة تمنع تكرار رفض الشحنات.
أما التصنيع، فهو جوهر العملية؛ إذ ينبغي دعم المشروعات الصغيرة والمتوسطة لإنتاج العصائر والمركزات والمستخلصات الطبيعية، بما يحفظ القيمة المضافة داخل البلاد. إن تطبيق هذه الخطوات يمثّل الطريق الأكثر واقعية لإنعاش المجتمعات الريفية، وتعزيز صادرات السودان، وإعادة الاعتبار لزهرة الكركدي وللمزارع الذي يعتني بها

Leave a Reply