تجّار الوهم… حين يصبح الخداع عقيدة والدم وسيلة

صحيفة الهدف

 

م. عبدالمنعم مختار

في كل لحظة يشتدّ فيها الخطر على السودان، يتصدّر المشهد ذات الوجوه، التي خبرناها: تجّار الوهم. يخرجون بثقة لافتة، كأنهم مفوضو السماء على الأرض، يوزعون صكوك الوطنية ويُجرّمون المخالف، ويعيدون تدوير خطاب قديم بطلاء ديني ووطنجي، بينما يمارسون على الأرض نقيض ما يبشّرون به.

منذ سنوات الإنقاذ الأولى، كان الوهم هو الأيديولوجيا الحاكمة. الفقر قُدّم كـ“ابتلاء”، والطغيان غُلّف بـ“مشروع حضاري”، والح-رب رُفعت إلى مرتبة العبادة. رُويت قصص “رائحة المسك” التي تفوح من أجساد الق-تلى، و“اشتراك الملائكة في المعارك”، و“عرس الشهيد” في السماء، و“الحور العين” التي تنتظر الفتى العشريني في ميادين القت-ال. كانت تلك القصص جزءًا من ماكينة تعبئة ضخمة دفعت آلاف الشباب إلى الموت وهم يظنون أنهم يعبرون إلى الفردوس.

ومع مرور الوقت تبيّن زيف تلك الروايات: عاد بعض “الشهداء” أحياءً ليرووا كيف نُعيت أسماؤهم وصُنعت حولهم كرامات وهمية، قبل أن يخرج حسن الترابي نفسه ليُنكر جملةً وتفصيلًا كثيرًا مما كان يروّجه خطاب التعبئة، ويعترف بأن معظم ما قيل كان صناعة سياسية صِرف.

في دارفور، تكرّر المشهد بصورة أكثر قسوة: جرى طلاء الج-رائم بلون القدر والفتنة، وقُلبت المعاني حتى صار الضحية جانيًا والجاني حاميًا لـ“هيبة الدولة”. وفي الجنوب، ارتفعت أناشيد “الجهاد” بينما كانت الح-رب تُنتج الانفصال خطوةً بخطوة.

اليوم، مع انقلاب البرهان وتمدد الح-رب الأخيرة، تعود ماكينة الوهم بتركيبة جديدة، لكن بآليات قديمة. صار دعاة المدنية “عملاء”، والداعون لعودة الجيش للثكنات “هدّامين للدولة”. وصارت كلمة “لا للح-رب” تُهمة جاهزة. هكذا يتحول صاحب الرأي إلى مشتبه، والباحث عن السلام إلى خائن، والمتحدث عن العدالة إلى “طابور خامس”.

إنه اغ-تيالٌ للرأي قبل أن يكون اغ-تيالًا لصاحبه.

خطاب الوهم تغيّر تجاه الدعم الس-ريع والميليشيات الأخرى كما تتغير اتجاهات الريح: من “قطاع طرق” إلى “أبطال”، ومن “أبطال” إلى “خونة”، تبعًا لمصلحة الحاكم لا لمعايير الحقيقة. ويستمر الوعد الك-اذب كما لو أنه جزء من طقوس الح-رب:

“النصر خلال أسبوع”… “أسبوعين على الأكثر”… “شهر بالكثير”…

وها نحن نقترب من العام الثالث للح-رب دون أن يتحقق سوى الخراب وتمزيق البلاد.

وعلى الأرض، تتراكم الفظائع:

فضّ الاعت-صام الذي رُوّج له كـ“حسم للفوضى”، بينما ظلّ ندبة دامية في الذاكرة.

الاعتقالات التي سُمّيت “إجراءات أمنية”.

التعذيب الذي قُدم على أنه “تحقيق ضروري”.

الاغت-صاب الذي حاولوا دفنه تحت تبريرات “ملابسات الحرب”.

نهب المدن وإحراق القرى وترويع المدنيين تحت لافتة “المعركة الفاصلة”.

أخطر ما يصنعه تجّار الوهم ليس الطلقة، بل الرواية؛ ليس القت-ل المباشر، بل قت-ل الحقيقة نفسها. إنهم يمارسون القت-ل المعنوي عبر تشويه المختلف وإخصاء الأسئلة وإغراق الوعي بالشعارات الفارغة. بين راية الدين حين يشاؤون، وراية الوطن حين يُلائمهم، يبقى الوهم هو المادة الخام التي يصنعون منها سلطتهم.

أختم بالقول أنه لا مستقبل لوطن يُقدّس الوهم ويح-ارب الوعي. ولا نجاة لشعبٍ يُخدَع قبل أن يُق-تل. إن الطريق يبدأ من الاعتراف بالحقيقة كما هي—مجردة، صلبة، بلا تزويق—ومن إدراك أن الشعوب لا تهزمها الح-روب بقدر ما تهزمها الأكاذيب التي تتبناها.

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.