أ. ماجد الغوث أ. طارق عبد اللطيف أبوعكرمة
منذ أن ولد البعث فكرةً لا حزبًا، وسؤال العلاقة بين الفكرة وأداتها يلاحقه كظلّه، كيف تبقى الروح طاهرة في جسدٍ مهدد بالبيروقراطية؟ وكيف تتحول الفكرة من شرارةٍ إلى مؤسّسة دون أن تخبو؟
في الفكر البعثي، لا يُفهم (الحزب) و(التنظيم) كتركيب إداري أو تمايز وظيفي فحسب، بل كعلاقةٍ وجودية بين الروح والبنية، بين ما يُلهم وما يُنظّم، بين الحلم الذي يحرك التاريخ، والأداة التي تمنح الحلم شكلاً قابلاً للحياة. إنّ من لا يميز بين الاثنين، يُخاطر بأن يُحوّل الفكرة إلى إدارة، والثورة إلى إجراءات.
1. الحزب: (الوعي قبل البنية):
الحزب في فكر البعث هو وعي الأمة العربية بذاتها لحظة نهوضها. هو ليس تجمّعاً سياسياً يسعى إلى السلطة، بل حركة وعيٍ تُحوّل التاريخ من مصادفة إلى رسالة. فالحزب هو الكلمة، التي تتجاوز التنظيم، والروح التي تسبق الجسد. وكما رأى الأستاذ ميشيل عفلق، فإن الحزب في جوهره فكرة تتحرك في قلوب الناس قبل أن تتحول إلى هياكل في المكاتب؛ أي أن وجوده يبدأ في الضمير الجمعي للأمة العربية، لا في الهيكل التنظيمي.
فالحزب في حقيقته ضمير الأمة ومختبر روحها، إنه الأداة التاريخية التي تمكّن الإنسان العربي من استعادة ذاته، وتحويل المعاناة إلى وعي، والوعي إلى فعل، والفعل إلى مصير. فالحزب هو لحظة الوعي حين تتحول من شعور غامض بالظلم إلى مشروعٍ متكامل للحرية والعدالة والوحدة.
2. التنظيم:( الشكل الضروري لحماية الفكرة):
أما التنظيم، فهو البنية التي تحفظ حرارة الفكرة من التبدد. إنه ليس بديلاً عن الحزب، بل ظلّه العمليّ في عالم الفعل. فالتنظيم في الفكر البعثي ليس مجرد إدارة للصفوف، بل نظام أخلاقي يتجسّد فيه مبدأ الانضباط والالتزام. إنه الجسد الذي يَحملُ الروح، لكنّ الجسد لا يجوز أن يتحكم في الروح أو يحدّها، لأن الوظيفة الأسمى له هي أن يصونها من الفوضى دون أن يخنقها بالرتابة.
التنظيم إذن ليس غاية، بل وسيلة لتمكين الفكرة من أن تتنفس في الزمن دون أن تذوب فيه. فإذا طغت البنية على المعنى، مات التنظيم وصار قشرةً خاوية؛ وإذا ذاب المعنى في الفوضى دون شكل، ضاع الحزب في العاطفة. فكل تنظيمٍ لا يتجدد يموت، لأن الزمن لا يحفظ إلا ما يتحرك في داخله، لا ما يقف عند حدوده.
3. العلاقة الجدلية: (الروح التي تصنع جسدها):
العلاقة بين الحزب والتنظيم في البعث هي علاقة جدلية، لا تعارضية. فالفكرة تبحث دائماً عن شكلٍ يعبّر عنها، لكن الشكل يفقد شرعيته لحظةَ ينفصل عن الفكرة. فالحزب هو (الروح المبدعة)، والتنظيم هو (الجسد المنضبط)، والبعث الحقيقي هو حين تتوازن الإبداعية مع الانضباط، فلا تتحول الروح إلى فوضى ولا الجسد إلى سجن.
إنّ خطورة التجارب التاريخية في بعض الأقطار، حيث أنّ التنظيم ابتلع الحزب، فصار الانضباط بديلاً عن الإيمان، والتراتبية بديلاً عن الفكر، وأصبح العضو يطيع دون أن يفكّر، وينفّذ دون أن يحلم. هكذا تراجعت الفكرة الرسالية إلى شعار، وتحولت الثورة إلى مؤسسة. بينما أراد البعث أن يكون تنظيماً يحمي الحرية، لا سلطةً تخنقها. فإنّ التنظيم الحقيقي هو الذي يحفظ للفكرة كرامتها الإنسانية، فلا يجعل الانضباط بديلاً عن الوعي، ولا يجعل الولاء أداة للنجاة من النقد. فالحزب الذي لا يُنتج مفكرين، يُنتج تابعين.
4. الحزب كأفق، والتنظيم كرحلة:
الحزب هو الأفق الذي يشدّ الأمة العربية نحو المستقبل، والتنظيم هو الرحلة المنضبطة التي تسير فيها.
أ. الحزب يُعبّر عن (الغاية) — عن الإنسان الحر، والمجتمع الموحد، والأمة الرسالية.
ب. التنظيم يُعبّر عن (الطريق)— عن الجهد، والانضباط، والعمل اليومي الموجه نحو الغاية.
ومن دون الحزب، يفقد التنظيم بوصلة الاتجاه، ومن دون التنظيم، يفقد الحزب قدرته على السير. إنهما ليسا ضدين، بل قطبان يتولّد بينهما التيار الحيّ الذي يحرك التاريخ.
5. التحذير البعثي من دولة التنظيم:
في وصية الشهيد القائد صدام حسين، يتجلّى البعد العميق لهذا التمييز: (نقل تقاليد الحزب إلى الدولة، لا نقل تقاليد الدولة إلى الحزب).
فحين تُصاب التنظيمات بالجمود وتتحول إلى بيروقراطيات، تنتقل إليها أمراض الدولة: التسلط، والمحاباة، والخوف من التجديد. عندها، يصبح التنظيم مقبرةً للحزب، ويصبح الحزب مرآةً مشوّهة للدولة، لا عقلها الواعي. فالبيروقراطية لا تقتل الفكرة لأنها تعاديها، بل لأنها تُحوّلها إلى عادة. والاعتياد هو العدو الخفي لكل رسالة.
أما حين تُنقل تقاليد الحزب — من انضباطٍ وإيمانٍ وتضحيةٍ ونقاء — إلى الدولة، تتحول مؤسساتها إلى أدواتٍ لخدمة الشعب، ويصبح التنظيم معبراً نحو الروح لا جداراً أمامها.
6. الغاية: (من الحزب إلى الأمة العربية):
الهدف الأخير ليس أن يستمر التنظيم بذاته، بل أن ينقل وعي الحزب إلى الأمة العربية كلّها، حتى يغدو كلّ مواطنٍ في الأمة العربية بعثياً في ضميره وإن لم يحمل بطاقة الحزب. فالتنظيم مرحلةٌ في مسار التاريخ، بينما الحزب هو التاريخ حين يكتمل وعيه بذاته.
حين تصبح قيم الحزب — الانتماء، التضحية، العدالة، والعمل الجماعي — جزءاً من الوعي الاجتماعي، تنتقل الفكرة من التنظيم إلى الأمة، ومن العضوية إلى الرسالة. عندها فقط، يتحقق البعث بمعناه الأعمق، والمتمثل في أن تتحول الأمة العربية كلها إلى حزبٍ واحدٍ كبير، هو الحزب في صورته الرسالية الكبرى. وهكذا، يصبح اكتمال الحزب في ذوبانه، كما تكتمل الشمعة باحتراقها، لا لتفنى، بل لتُنير.
وفي عصر الشبكات الرقمية والحركات الاجتماعية الجديدة، يكتسب هذا التمييز أهمية جديدة، في كيف يحافظ الحزب على تنظيمه دون أن يفقد مرونته؟ وكيف يبقى التنظيم حامياً للروح لا سجناً لها في زمن يتغير بسرعة؟
خاتمة:
الحزب روح، والتنظيم جسد، وكما لا يعيش الجسد بلا روح، لا تبقى الروح بلا جسد. لكنّ الخلود لا يكون إلا حين تتوازن العلاقة بينهما على قاعدةٍ واحدة:
– أن يكون التنظيم خادمًا للفكرة، وأن تكون الفكرة مرشدة للتنظيم.
– فإذا تمكّن الحزب من أن يزرع روحه في مؤسسات الدولة والمجتمع، أصبح هو الأمة العربية في طور وعيها.
– أما إذا ترك التنظيم يبتلع فكرته، صار الحزب دولةً بلا ضمير، ورسالةً بلا صوت.
وهكذا، يظلّ حزب البعث العربي الاشتراكي في جوهره دعوةً مستمرة لأن يتقدّم الروح على الشكل، والوعي على المصلحة، والرسالة على السلطة. وحين يسود الوعي على المصلحة، وتنتصر الفكرة على الشكل، يولد البعث من جديد — لا كحزبٍ في الزمان، بل كضميرٍ للأمة العربية في وجه التاريخ.

Leave a Reply