م. عبد المنعم مختار
#ملف_الهدف_الثقافي
منذ أن أوصى الصناعي السويدي ألفريد نوبل بتخصيص جزء من ثروته لـ«تكريم من يخدم الإنسانية»، وُلدت جائزة حملت في جوفها تناقضًا صارخًا بين الفكرة النبيلة والممارسة السياسية. فالجائزة التي يُفترض أن تُمنح لصُنّاع السلام، تحوّلت عبر عقود إلى أداةٍ في يد القوى الغربية لإعادة إنتاج هيمنتها الرمزية وتجميل وجهها الاستعماري.
لم تعد «نوبل» اليوم تعني إنجازًا أخلاقيًا أو فكريًا، بقدر ما صارت شهادة حسن سلوك تُمنح لمن ينسجم مع الرؤية الغربية للعالم — تلك الرؤية التي تُعيد تعريف الخير والشر وفق مصالحها. فمنذ هنري كيسنجر، مهندس الانقلابات في تشيلي وكمبوديا، الذي نالها عام 1973 «لجهوده في إنهاء حرب فيتنام»، إلى باراك أوباما الذي تسلّمها عام 2009 قبل أن تمطر طائراته المسيّرة اليمن وباكستان بالنار، تكشف الجائزة عن وجهها الحقيقي: مكافأة سياسية مغطاة بورق السلام.
ولم تكن الساحة العربية بعيدة عن هذا الاستخدام الانتهازي للجائزة، فقد بلغت المأساة ذروتها عام 1978 عندما مُنحت جائزة نوبل للسلام لكلٍّ من الرئيس المصري أنور السادات ورئيس الوزراء الإسرائيلي مناحيم بيغن، بعد توقيعهما اتفاقية كامب ديفيد التي كانت خصمًا على القضية الفلسطينية وتكريسًا لتفكيك الموقف العربي الموحد من الاحتلال. يومها احتفى الغرب بـ«شجاعة السادات في صنع السلام»، بينما رآه العرب خائنًا لقضية الأمة، يسلّم مفاتيح التضامن العربي في مقابل التصفيق الغربي وورقة نوبل المذهّبة. كانت تلك الجائزة أول إعلان صريح بأن «نوبل» لا تُمنح لمن يصنع سلامًا حقيقيًا، بل لمن يُطبّع ويُوقّع ويُبرّر الاحتلال.
وفي عام 2010، مُنحت للمعارض الصيني ليو شياوبو في إطار حملة تأليبٍ ضد بكين، ثم للصحفيين ماريا ريسا وديمتري موراتوف عام 2021 في ذروة الحرب الإعلامية ضد روسيا. أما هذا العام، فقد بلغت المفارقة ذروتها حين منحت لجنة نوبل جائزتها للفنزويلية ماريا كورينا ماتشادو، المعروفة بعلاقاتها الوثيقة بواشنطن ووكالة المخابرات الأمريكية، ودعوتها الصريحة لتدخلٍ أجنبي في بلادها، ومعاداتها لسياسات هوغو شافيز ونيكولاس مادورو اللذين انتشلا ملايين الفنزويليين من الفقر، وتصدّيا بشجاعة لسياسات ترامب العدائية ودعمه المطلق للإبادة الجماعية ضد الشعب الفلسطيني.
حتى البيت الأبيض نفسه اعترف ضمنيًا بأن «معايير الفوز بجائزة نوبل للسلام باتت سياسية للغاية»، في تبريره لعدم فوز دونالد ترامب بها، وهو تصريح يكشف أن الجائزة لم تعد أداة لتكريم من يصنع السلام، بل من يخدم أجندة القوى الكبرى. فبدل أن تُمنح لصُنّاع السلام الحقيقيين في فلسطين والسودان، لأولئك الذين يواجهون انتهاكات حقوق الإنسان بشجاعة، ويقودون مبادرات إنسانية لإطعام الجوعى وتقديم الدواء وخدمات الطوارئ تحت أزيز المدافع وقصف الطائرات، تُمنح لمن ينسجم مع سردية الغرب ويُلمّع وجه منظومته.
إن الجائزة التي تموّلها عائدات السلاح لم تغادر يومًا خنادق المنظومة الرأسمالية، بل ظلّت أداة ناعمة في حربٍ باردة ثقافية تتخفّى خلف الشعارات الإنسانية. إنها وسيلة الغرب لتوزيع الأوسمة على وكلائه، لا لتكريم الأحرار الذين يقاومون منظومته.
إن معركتنا الحقيقية اليوم ليست على الأرض فحسب، بل في الوعي أيضًا. فكم من «جائزة» تُمنح لتغطية خيانة، وكم من «سلام» يُصنع في مصانع البارود. علينا أن ننظر جيدًا إلى ما وراء البريق، فثمة مؤامرات تمرّ من تحت الأضواء لا من وراء الستار.
#ملف_الهدف_الثقافي
#جائزة_نوبل
#السياسة_والسلام
#خيانة_إنسانية
#المقاومة_والوعي
#أجندة_غربية
#الواقع_العربي

Leave a Reply