حوار: طارق عبد اللطيف أبو عكرمة
#الهدف_حوارات
- الحكم المحلي في السودان ظل مرتهنًا للمركز وهيمنته منذ نشأته
- القوانين المتعاقبة على الحكم المحلي ركّزت على الهياكل وأهملت الفاعلية والتمويل
- التركيبة الاجتماعية المعقدة تحولت من عامل إثراء إلى سبب للصراع بسبب فشل الدولة
- مسار الحكم اللامركزي قد خضع لقدر كبير من التسيس تفاوت في حجمه وأهدافه وغاياته
- معظم الإصلاحات على الحكم المحلي تركزت على الهياكل فقط؛ ما يوحي باستعجال المشرّع والسياسي في الوصول إلى النتائج
- لم نجد مكانًا للحكم المحلي في اتفاقية السلام الشامل لعام 2005 والدستور الانتقالي
- قانون 1971 سلب المجالس المحلية الاستقلال المالي، وأصبحت ماليتها وإيراداتها تعتمد على العون المركزي
- العجز في مالية الحكم المحلي ظل متواصلاً .. والاعتماد على الدعم الولائي تجاوز الـ 80%
المقدمة:
في خضم الحرب الدائرة التي تهدد كيان الدولة السودانية، وتعيد تشكيل خريطة الحكم والسلطة، يبرز نموذج الحكم المحلي كأحد أهم الآليات لضمان استمرارية الخدمات والحفاظ على التماسك الاجتماعي ما بعد وقف الحرب. “الهدف” أجرت حوارا مع الدكتور يوسف آدم الضي، وزير الحكم الاتحادي في حكومة الفترة الانتقالية، لاستشراف مستقبل الحكم المحلي في السودان، وتقييم أدائه خلال الأزمة الراهنة، واستكشاف آليات تفعيله من وحي التجربة ليكون حجر الزاوية في مرحلة ما بعد وقف الحرب وتحدياتها.
كيف تُقيّم تجربة الحكم المحلي في السودان بشكل عام من حيث إنجازاتها وإخفاقاتها قبل الحرب الحالية؟
إن الوصول لتقييم تجربة الحكم المحلي في السودان، ومن ثم تحديد إنجازاتها وإخفاقاتها، يتطلب النظر إلى هذه المسيرة آخذين في الاعتبار الأبعاد المختلفة لتجارب ومراحل وتطور أنظمة الحكم المحلي في السودان؛ لأن الوحدات المكونة لها ليست مقطوعة الصلة بماضيها من تشريعات أو قوانين أُنشئت سابقًا سواء كانت تعبيرًا عن تطور طبيعي أم أنها أُنشئت لأغراض محددة، خاصة في فترة الحكم الاستعماري. فهناك نظام الحكم المحلي في السودان خلال الفترة الاستعمارية وما بعدها حتى عام 1951، ثم قانون مارشال للحكم المحلي لسنة 1951، قانون إدارة المديريات لعام 1960، قانون الحكم الشعبي المحلي لعام 1971 وتعديله قانون الحكم الشعبي المحلي لسنة 1980، ثم جاءت قوانين ما يعرف بالإنقاذ من 1991 حتى 2003م، ثم التطورات ما بعد ذلك.
كيف تطور نظام الحكم المحلي في السودان خلال الفترة الاستعمارية وما بعدها حتى عام 1951؟
لقد كان السودان حتى عام 1937 يحكم حكمًا غير مباشر من قبل الإنجليز، بعد فشل الحكم المباشر، وذلك بالاستعانة بالإدارة الأهلية لتحقيق أهدافهم الاستعمارية. جاء هذا التغيير نتيجة لتزايد وتصاعد الحركة الوطنية بالاستقلال وللمشاركة في حكم بلادهم. بدأ التخلي عن دور الإدارة الأهلية تدريجيًا عندما بدأوا بتغيير سياستهم نحو تبنّي نظام الحكم المحلي، وبناءً على ذلك صدرت ثلاثة قوانين في عام 1937 هي: قانون الحكومة المحلية للبلديات، وقانون الحكومة المحلية للمدن، وقانون الحكومة المحلية للأرياف.
وقد أجاز قانون البلديات للحاكم العام إنشاء مجالس بلدية في أربع مدن هي: الخرطوم وبحري وأم درمان وعطبرة وبورسودان. أما قانون مجالس المدن فقد أجاز قيام 20 مدينة، بينما ترك إنشاء مجالس الأرياف لتقدير الحاكم العام، فقد أنشأ 26 مجلسًا تقريبًا. وعند إلغاء القوانين الثلاثة في عام 1951 بلغت الجملة الكلية للمجالس 57 مجلسًا. أما بالنسبة لمجالس البلديات والمدن، فقد كانت المجالس تتكوّن من 18 عضوًا، سبعة يعينهم مدير المديرية والبقية بالانتخاب. ومفتش المجلس هو رئيس المجلس بحكم منصبه، بينما ينتخب نائبه بواسطة الأعضاء. أما بالنسبة لمجالس الأرياف فلمدير المديرية سلطة تعيين معظم الأعضاء. فيما عدا ذلك فإن المجالس الريفية لا تختلف عن الحضرية إلا في اعتمادها على الحكومة المركزية نظراً لضعف إمكانياتها المالية التي تعتمد فيها على القطعان والضرائب الزراعية. أما اختصاصات المجالس فهي إنشاء المدارس الصغرى، وصحة البيئة والأشغال العامة وصيانة الطرق وإدارة مصادر المياه والغابات والأسواق والمعديات النهرية. وتتكون الموارد المالية من العوائد والرخص التجارية ورسوم الخدمات إلى جانب الإعانات الحكومية، ولكل مجلس ميزانية منفصلة تخضع للرقابة المالية، علاوة على رقابة المدير ومفتش المركز. هذا وقد تأخر تطبيق قوانين 1937 خمس سنوات، بينما تم إنشاء المجالس في عام 1942م.
ما هي المبادئ الأساسية التي جاء بها قانون مارشال للحكم المحلي لسنة 1951، وما هي أهم موارده المالية؟
جاء قانون مارشال للحكم المحلي لسنة 1951، في أعقاب انتهاء الحرب العالمية الثانية وتصاعد الحركة الوطنية عبر مؤتمر الخريجين وقيام الأحزاب السياسية ونشوء الصحافة الوطنية، فدعا الحاكم العام لملتقى إدارة السودان للنظر في النظام الإداري ودراسة إشراك وتدريب السودانيين في شؤون الحكم. وأعدّ تقرير تضمن إنشاء نظام جديد للحكم المحلي. ورد في التقرير عدة مبادئ:
أن تكون المجالس المحلية على قدر من الاستقلال النسبي، في التمتع بالشخصية الاعتبارية، وذات موارد مالية كافية ومنفصلة عن المركز. ولها الحق في اتخاذ القرار المستقل وفق صلاحيات محددة وتنفيذها، وتكون مسئولة أمام الناخبين. كذلك أن تكون متنوعة في شكلها وسلطاتها بتنوع بيئاتها، وأن تُمنح السلطات تدريجيًا. ويحتفظ المركز بحق الرقابة مع توفير الدعم اللازم للمجلس لتقديم مستوى جيد من الخدمات.
وعلى ضوء ذلك تم إنشاء 84 مجلسًا بلديًا وريفياً منحت الموارد التالية: ضريبة أرباح الأعمال، عشور المحاصيل، القطعان، الأطيان، النخيل، المباني، الملاهي، الدقنية، إضافة للعوائد المنزلية ورسوم الرخص والخدمات وغرامات المحاكم الأهلية.
وما هي أبرز الإيجابيات والانتقادات التي وُجهت لقانون مارشال 1951؟
هناك بعض المزايا انفرد بها هذا القانون أدت إلى تحقيق نجاحات كثيرة من بينها أن المجلس أُعتبر أحد الأجهزة الديمقراطية التي تعبر عن إرادة أهل المنطقة بالإضافة إلى مهمته الخدمية، كما اتسم بمبدأ الحياد السياسي، فهو مؤسسة عامة تخدم جميع المواطنين في دائرة اختصاصه، الأمر الذي مكنه من الاستمرار لما يزيد عن العشرين عامًا بدون تغيير أو تعديل. تفهم المركز للدور الهام للمجلس ذلك بتنازله عن كافة الضرائب المباشرة لمصلحة المجلس، بالإضافة للإعانات المركزية التي وفرت قدرًا من توازن الصلاحيات والموارد المالية. إلا أن القانون لم يسلم من بعض الانتقادات من بينها أن صلاحيات الحكم المحلي في مجال الخدمات تعتبر محددة ولا تلبي تطلعات المواطنين.
في مرحلة ما بعد قانون مارشال ما الدور الذي لعبه قانون إدارة المديريات لعام 1960 في إعادة هيكلة الحكم المحلي؟
قانون إدارة المديريات لعام 1960 والحكم المحلي، جاء في أعقاب انقلاب الفريق عبود، حيث كون مجلس الوزراء لجنة برئاسة رئيس القضاء (أبورنات) وعضوية ممثلين لسبع وزارات، مهمتها الأساسية دراسة النظام الإداري القائم آنذاك مركزيًا ومحليًا ومن ثم اقتراح نموذج مناسب. كان الهدف هو تقليص سلطة مدير المديرية وتحويل صلاحياته للحاكم العسكري، وتصفية المراكز بالمديرية وتحويل صلاحياتها لمجالس الحكم المحلي والشرطة. وجاء في توصياتها:
أن الحكم اللامركزي هو أكثر النظم صلاحية للبلاد، وأن يقوم في كل مديرية مجلس بسلطات تشريعية وتنفيذية يسمى مجلس المديرية، يرأسه الحاكم العسكري، وأن يكون له مجلس تنفيذي يتكون من رؤساء الوحدات الحكومية يترأسه مدير المديرية. على أن تستمر المجالس المحلية وفق قانون الحكم المحلي لسنة 1951م. ولقد مُنح المجلس الشخصية الاعتبارية ورُصدت له ميزانية مستقلة، وخصصت له موارد مالية من الضرائب والعوائد ورسوم الإنتاج والرخص والإيجارات، بالإضافة إلى فوائض المجالس الغنية، كما اعتمدت المجالس إعانة سنوية وفقًا للكثافة السكانية في المديرية.
استمر العمل بهذا القانون حتى قيام ثورة أكتوبر 1964 التي قررت إلغاء مجالس المديريات ومنصب الحاكم العسكري، وتحويل سلطاتها واختصاصاتها إلى المجالس التنفيذية، وأن يكون رئيس المجلس التنفيذي معينًا من الحكومة المركزية ويسمى محافظ المديرية، وهو مسؤول عن الأمن العام أمام وزير الداخلية، وما عدا ذلك يكون مسؤولًا لدى وزير الحكومة المحلية. وقد ظلت المجالس المحلية في وضعها القديم تتمتع بالشخصية الاعتبارية والاستقلال المالي، ولكن دون تخصيص أي إضافات للموارد المالية المخصصة لها.
وفقا للتمرحل استمر ذلك حتى عام 1971م، فما المبادئ التي استند إليها قانون الحكم الشعبي المحلي لعام 1971، وما هو الهيكل الهرمي الذي أسسه؟
قانون الحكم الشعبي المحلي لعام 1971، جاء حينما قام نظام مايو العسكري 1969 بإعلان إلغاء الدستور المؤقت وحل الأحزاب ثم شرع في تغيير النظام الإداري بإلغاء قانون المجالس المحلية وقانون 1951، كما ألغى الإدارة الأهلية، واستعاض عن ذلك ببناء تكوينات إدارية ذات صبغة سياسية بمسميات مثل لجان تطوير القرى وكتائب مايو.
وأصدر قانون الحكم الشعبي المحلي لسنة 1971، المتضمن لأفكار الدكتور محمد علي بخيت وزير الحكومة المحلية ومنها:
- أن وجود حكومة موازية للحكومة المركزية كما في نظام مارشال يجعل السلطة المركزية تستأثر بالصلاحيات والموارد بينما تترك القليل للحكومة المحلية، والمطلوب في حالة السودان نظام إداري هرمي يشمل الحكومتين معًا.
- إن الاستقلال الذاتي الذي يحظى به الحكم المحلي فكرة تلائم الدول المتقدمة التي تجاوزت الانتماءات العرقية والإقليمية، أما في السودان فهي تؤدي إلى تركيز المؤسسات الطائفية والقبلية.
- لابد من توسيع المشاركة الشعبية في الحكم المحلي بحيث تشمل التخطيط والتشريع والتنفيذ، كما أن أوضاع البلاد تقتضي المزج بين الممثلين الشعبيين من جهة والمهنيين والإداريين من جهة أخرى، علاوة على أن الإدارة المجلسية يجب أن تمتد لتشمل القرى والأحياء والفرقان.
وطبقا للقانون فقد تأسس نظام هرمي للحكم المحلي من أربع مستويات تتدرج من أعلى إلى أسفل على النحو التالي:
- مجلس شعبي تنفيذي للمديرية.
- مجلس شعبي المنطقة.
- مجلس شعبي المدينة أو الريف.
- مجلس شعبي القرية أو الحي أو الفريق أو السوق أو المنطقة الصناعية.
هل كان لقانون 1971 سمات تتعلق بالصلاحيات والمشاركة الشعبية والمالية؟
نعم فمن سمات هذا القانون، تركيز السلطات عند مجلس المديرية الشعبي التنفيذي، حيث انفرد وحده بالشخصية الاعتبارية دون المجالس المحلية الأخرى. فقد توسعت سلطاته المخولة له حيث شملت كافة مراحل التعليم العام والصحة بمرافقها العلاجية، والتصرف في الأراضي وتنفيذ الخطط الإسكانية وتشييد المطارات المحلية، هذا إلى جانب الاختصاصات التقليدية كالرعاية الاجتماعية والزراعة والثروة الحيوانية. كما أعطيت سلطة الإشراف على قوات الشرطة والسجون والمطافي، بينما احتفظت الحكومة المركزية بإدارة الكشف الموحد للضباط الإداريين.
لكنها أيضا سلبت المجالس المحلية الاستقلال المالي، إذ أصبحت مالية وإيرادات مجالس المديريات تتكون من ضرائب المجالس المحلية السابقة، بجانب إيرادات مجالس المديرية وإعانات الحكومة المركزية. كما توسعت المشاركة الشعبية على مستوى المجالس المحلية لتشمل القرى والفرقان والأحياء والأسواق، بلغ عددها حوالي 5,600 مجلسًا محليًا، ولكنها مشاركة شكلية خالية من السلطات والصلاحيات المالية.
وما هي أوضح سلبيات قانون 1971 وهل تم تعديله لاحقًا؟
تظهر أوضح سلبيات هذا القانون في قصور الموارد المالية مقابل الصلاحيات الضخمة التي حوّلت للمجالس؛ ذلك أن القانون احتوى على ذات الموارد المالية القديمة دون مراعاة للأعباء الجديدة. من ناحية أخرى فإن تركيز الصلاحيات في مجلس المديرية أدى إلى ضعف فعالية المجالس في المستوى الأدنى، إذ لم يكن هناك إلزام في القانون بتفويض الصلاحيات من مجلس المديرية إلى المجلس الأدنى. لذلك انتظرت المجالس المحلية عشر سنوات دون فعالية مالية، حتى عُدّل القانون في عام 1981 ليصبح التفويض للمجلس الأدنى إلزاميًا.
وماذا عن قانون الحكم الإقليمي لسنة 1981؟
قانون الحكم الشعبي المحلي لسنة 1981 كان له أثره على الحكم المحلي، فقد شهد عام 1980 تعديل دستور السودان الدائم لعام 1973 وصدور عدد من القوانين، وذلك لمواءمة إدخال الحكم الإقليمي إلى المديريات الشمالية، بعد أن كان معمولًا به في الجنوب في أعقاب التوقيع على اتفاقية أديس أبابا عام 1972م، التي أنهت الحرب الأهلية ووحّدت المديريات الجنوبية الثلاث في إقليم واحد ومنحته الحكم الذاتي الإقليمي في إطار وحدة البلاد.
وبموجب تطبيق نظام الحكم الإقليمي أُلغي نظام الحكم الشعبي المحلي لسنة 1971 واستُبدل بقانون الحكم المحلي لسنة 1981 تحت رعاية الحكم الإقليمي. والحكم الإقليمي هو تنظيم سياسي إداري لا يختلف من حيث المضمون عن الحكم الفيدرالي. وقد حدد قانون الحكم الإقليمي لسنة 1980 حدود الأقاليم الجديدة على هذا النحو:
- الإقليم الشرقي: ويضم مديرتي كسلا والبحر الأحمر.
- الإقليم الشمالي: ويضم مديريتي الشمالية ونهر النيل وعاصمته الدامر.
- الإقليم الأوسط: ويضم مديريات النيل الأبيض والنيل الأزرق والجزيرة وعاصمته ود مدني.
- إقليم كردفان: ويضم مديريتي شمال كردفان وجنوب كردفان وعاصمته الأبيض.
- إقليم دارفور: ويضم مديرتي شمال دارفور وجنوب دارفور وعاصمته الفاشر.
ومن ذلك نرى أن قانون الحكم الإقليمي لم يقم بإعادة توزيع في المديريات، وإنما كل ما قام به هو عملية دمج المديريات فيما بينها وإقامة إدارة إقليمية تشرف على الوضع الجديد للأقاليم القائمة. ويتكون الهيكل التنظيمي للسلطات الإقليمية من السلطة التنفيذية التي يمثلها حاكم الإقليم ونائبه، ومجلس وزراء الإقليم، ومن السلطة التشريعية التي يمثلها مجلس الحكم الإقليمي، ومن الحكم المحلي.
ما هي الملامح الهيكلية والمالية لقانون الحكم الشعبي المحلي لسنة 1980؟
قانون الحكم الشعبي المحلي لسنة 1980م، الذي يعرف اصطلاحًا باسم قانون مجالس المناطق، باعتبار أن مجلس المنطقة أصبح المستوى الأعلى في هيكل الحكم المحلي عوضًا عن مجلس المديرية، والذي بموجبه تنشيء السلطة التنفيذية الإقليمية بأوامر تأسيس عدد من مجالس المناطق على أن يكون لكل مجلس شخصية اعتبارية وميزانية مستقلة وخاتم عام، كما أفرد القانون اختصاصات أصيلة لمجلس المنطقة بجانب سلطته في إصدار أوامر محلية لها قوة القانون وحقه في إنشاء مجالس محلية على مستوى المدن والأرياف والأحياء والقرى والفرقان على المستوى القاعدي.
وما الذي يعنيه ذلك؟
ذلك يعني أن الحكومة الإقليمية أصبحت مشرفة على الحكم المحلي بدلًا عن السلطة المركزية. من ملامح هذا القانون إلغاء المزج بين العنصرين الشعبي والديواني، كما أضفى الشخصية الاعتبارية للمجالس المحلية التي كانت مفقودة في قانون 1971م. فأصبح هيكل الحكم المحلي مقتصرًا على ثلاثة مستويات بدلًا من أربعة: مجلس المنطقة، مجلس المدينة أو المجلس الريفي، ثم مجلس القرية والفريق والمنطقة الصناعية والأسواق والحي. وقد أعطى القانون صلاحيات واسعة لمجلس المنطقة كاتجاه إيجابي لدعم اللامركزية، إلا أن الموارد المالية التي اعتمدها لمقابلة الصلاحيات كانت أقل من الوفاء بالمسئوليات، الأمر الذي حدّ من فاعلية الممارسة كما جرى لسلفه قانون 1971م.
ما المشاكل التي واجهت المجالس المحلية في الثمانينات تحت رعاية الحكم الإقليمي؟
لقد ظلت موارد المجالس المالية خلال الثمانينات ضعيفة لا تواكب المسؤوليات التي حددها قانون 1981م. لقد جاء هذا القانون عبئًا جديدًا على الحكم المحلي بميزانيته الباهظة التكاليف وعلى اعتماده على المصادر نفسها التي كانت في القانون السابق، فضلًا عن نفقات قيام الحكم الإقليمي. فقد اعتمد على العون المركزي، مما نتج عنه أحكام الرقابة المركزية عليها والحد من استقلالها. كما برهنت التجربة عن الضعف العضوي في تركيب الحكم الإقليمي، إذ كانت مجرد هياكل هشة ليس لها جذور تواجه بها قرارات الحل والضغوط السياسية التي ظل يمارسها رئيس الجمهورية وحكام الأقاليم، من خلال سياسة التسيس وفرض الحكام.
كيف أثر تطبيق نظام الفيدرالية (1991–2003) على الحكم المحلي من حيث الهيكلة والصلاحيات؟
الحكم المحلي في ظل الفيدرالية 1991–2003، دخل الحكم المحلي مرحلة جديدة بتأسيس الحكم الاتحادي المنشأ بالمرسوم الدستوري الرابع الصادر في فبراير 1991م والذي بمقتضاه أُلغيت القوانين التالية: قانون الحكم الذاتي الإقليمي للمديريات الجنوبية لسنة 1972، وقانون الحكم الإقليمي لسنة 1981م.
أنشأ المرسوم تسع ولايات، كما حدد سلطات كل من الحكومة الاتحادية والولائية بجانب السلطات المشتركة، أما الحكم المحلي فقد أصبح بموجب المرسوم شأنًا ولائيًّا، وقد حدد المرسوم موارد الولاية المالية دون تحديد موارد الحكم المحلي. إلا أن الأثر الكبير للحكم الاتحادي على الحكم المحلي قد حدث بسريان المرسوم الدستوري الثاني عشر، الذي أنشأ 26 ولاية دون مقومات فعلية، فاستولت هذه الولايات على أصول المحليات.
على ضوء ذلك كيف ترى قوانين الحكم المحلي في ظل نظام الإنقاذ (1991–2003)؟
يلاحظ أن نظام الإنقاذ قد أصدر خلال الفترة من 1991–2003 أربعة قوانين للحكم المحلي مثلّت توجه النظام ونظرته للحكم المحلي كأداة لتحقيق أطروحاته السياسية؛ ظهر ذلك من خلال تكثيف الدور الرقابي والدعوي والتعبوي والسياسي للمحافظ، وأصبح رئيس المحلية ممثلًا للحكومة في رقعته الإدارية. وهو ما يوحي بعدم الاستقرار وبأن النظام كان يمر بمرحلة تحول وعدم وضوح في الرؤية بالنسبة للأسس التي يجب أن يبني عليها الحكم المحلي. وإذا كان هناك ما يمكن قوله عن هذه القوانين فهو تكريسها للنظام المركزي والهيمنة والطابع الفوقي لمؤسسات النظام على الحكم المحلي. بحيث لم تختلف العلاقة بين المستوى الولائي والمحلي في ظل الفيدرالية عن علاقات الحكم الإقليمي مع المجالس المحلية.
كيف ذلك؟
ظل المستوى الأعلى بأجهزته ومؤسساته التنفيذية والتشريعية يمارس دور الإشراف والرقابة على المستوى الأدنى وذلك بإصدار أوامر تأسيس المجالس وتحديد مواردها المالية والحق في إلغاء أو تعديل أي أمر محلي إذا رأت أنه لا يتفق مع المصلحة العامة. كما اتجه المشرّع إلى تصغير حجم المجالس المحلية من خلال تقليل حجم الكثافة السكانية إلى ثلاثة آلاف نسمة بدلًا عن مائة أو خمسين ألف نسبة في السابق؛ نتيجة لذلك زاد عدد المجالس المحلية زيادة هائلة فارتفع عدد مجالس المحليات من 224 عام 1994 إلى 633 عام 1999 دون أي اعتبار للكفاية المالية للمجالس. على الرغم من أن قانون 2003 جاء متطورًا عن سابقاته من خلال العودة إلى معايير إنشاء المحليات من حجم السكان والمساحة الجغرافية والموارد المالية المناسبة والمجالس المنتخبة، إلا أن المركزية أطلت من خلال تعيين المعتمد سياسيًا. كما تواصل العجز في مالية الحكم المحلي مما قاد إلى استمرار الاعتماد على الدعم الولائي بصفة أساسية قد تتجاوز 80% من الموارد في بعض المحليات.
رغم كل ذلك تم إدراج الحكم المحلي في اتفاقية السلام الشامل لعام 2005 والدستور الانتقالي؟
نعم.. نلاحظ بعد اتفاقية السلام الشامل في 2005 تضمين الفيدرالية الجديدة في الدستور الانتقالي، ولكن لم نجد مكانًا للحكم المحلي؛ فقد وضعت الاتفاقية والدستور الانتقالي نظامًا إداريًا لا مركزيًا للسودان ذي مستويات متعددة (قومي، إقليمي، ولائي، محلي) وحدد صلاحيات ومسؤوليات كل مستوى منها ما عدا مستوى الحكم المحلي. وفيما يخص هيكل الدولة ومستويات الحكم نجد أن الاتفاقية قد انتهت إلى شكل فيدرالي غير متوازن بين الشمال والجنوب حيث رتّبت للجنوب دستورًا وهيئة تشريعية وحكومة، شاملة عشرة ولايات، علاوة على المشاركة في أجهزة الحكم الاتحادي، بينما جعلت الشمال كله وبكل ولاياته خاضعًا للحكم الاتحادي.
ما هو التقييم النهائي والأسباب الجذرية لفشل تجربة اللامركزية في السودان؟
يتضح من التقويم السابق للتجربة السودانية عمومًا في مجال اللامركزية ومما طرح من تحليل للأُطر الإدارية أن مسار الحكم اللامركزي قد خضع لقدر كبير من التسيس تفاوت في حجمه وأهدافه وغاياته والطموحات والأهداف السياسية التي أخذت بها الأنظمة المتعاقبة. كما يتضح من السرد والتحليل السابق أن الهدف المعلن الذي تضمنته الأُطر الدستورية والقانونية والتنظيمية والمالية لهذه التجربة هو تطوير وحدات الحكم اللامركزي المحلية والإقليمية وتمكينها من ممارسة صلاحياتها واختصاصاتها بما يكفل ويحقق الاستجابة الفاعلة لحاجات وطموحات المجتمعات المحلية والإقليمية. غير أن الممارسة الفعلية قد عكست وضعًا مغايرًا تمامًا لا ينطبق على التوجهات والدوافع التي طُرحت؛ فقد عكست التجربة نوعًا من الهيمنة السياسية على وحدات الحكم اللامركزي ظلت تمارسه السلطة المركزية في التدخل في شؤونها والتعدي على اختصاصاتها بما جعلها جزءًا لا يتجزأ من هياكل السلطة الحاكمة.
وما المشترك في ممارسات كل النظم حيال هذه الفكرة؟
الملاحظ أن النظم ظلت تركز في معظم الإصلاحات على الهياكل فقط؛ أي خلال هذه المدة نلاحظ ما يوحي باستعجال المشرّع والسياسي في الوصول إلى النتائج من دون إعطاء الوقت الكافي لإثبات فاعلية أو نجاح أو فشل هذا الحكم. كما يبرز الجانب المالي وضعف موارده وسوء توزيعها كأكبر معضلة واجهت الحكم اللامركزي. ثم هناك أسس العلاقة بين المركز والولايات والمحليات والرقابة المكثفة التي تمارسها على وحدات الحكم اللامركزي. إلى جانب أن مفهوم المشاركة الشعبية الذي يعد عصب فكرة الحكم المحلي فقد شُرط الأساس منذ البداية، وذلك لاحتكارية العمل السياسي في إطار (الحزب الواحد) والمقنّنة دستوريا، أي أن حق المشاركة والنشاط السياسي وحق الترشح للمجالس المحلية موقوفان على التزكية. ويتضح ذلك من خلال تركيز السلطة الشديد بيد رئيس الجمهورية، واعتماد أسلوب التعيينات، ووجود تنظيمات شعبية رسمية عاملة بجانب وحدات الحكم اللامركزي لها صلاحيات وامتيازات وإمكانات مالية سبّبت نوعًا من الخلط والارتباك لدى المواطن فيما بينها ووحدات الحكم اللامركزي، وذلك لتشابه مهامها ولوجود نفس العناصر أحيانًا في قيادتها؛ الضعف العضوي والبُنائي للمؤسسات المحلية وهشاشتها وعدم قدرتها على مواجهة قرارات الحل والتغوّل على صلاحياتها، نتيجة لضعف الكوادر وعمليات تفريغ المجتمعات المحلية عن طريق الهجرة والنزوح المستمر لعدة أسباب.
#الحكم_المحلي_السودان #يوسف_آدم_الضي #اللامركزية_في_السودان #السودان_بعد_الحرب #فشل_المركزية
#الإصلاح_الإداري #التنمية_المحلية #الخرطوم

Leave a Reply