
المقالة: الجماهير تصنع السلام: الدور الشعبي في بناء السودان الجديد (4 – 5)
أ. طارق عبد اللطيف أبوعكرمة
المقدمة: (من الوجود في الثورة إلى الوجود من أجل السلام):)الشعب يريد إسقاط النظام( لم تكن مجرد هتافه عابرة، بل كانت قولة وجودية أعلنت موت الإنسان السلبي وولادة المواطن الفاعل. اليوم، وبينما تقف النخب في صالوناتها تتجادل حول مفاهيم السيادة والشرعية، تعود الجماهير لتذكر الجميع بأن السلام لا يُمنح، بل يُصنع؛ وأن الشرعية لا تُمنح، بل تُستمد من رحم المعاناة والتضحيات.
أولاً: الإرادة الشعبية – من الشرعية السياسية إلى الشرعية الوجودية:
1. السلام كفعل شعبي لا كمنتج نخبوي: السلام الحقيقي ليس وثيقة توقع في قصر رئاسي، بل هو نسيج يومي تنسجه أيادي الأمهات في البيوت، والشباب في الأحياء، والمزارعين في الحقول. هو ذلك الحوار الخفي الذي يجري في المقاهي والمساجد والكنائس، قبل أن يجري في قاعات المفاوضات.
2. مقاييس الشرعية الجديدة: شرعية أي اتفاقية سلام لا تقاس بتواقيع النخب عليها، بل بمدى قبول الجماهير لها. القبول هنا ليس مجرد موافقة صامتة، بل هو مشاركة فاعلة في التنفيذ والمراقبة. الشرعية الحقيقية هي التي تولد من رحم المشاركة، لا من قمة التمثيل.
3. دروس الماضي: عندما غيبت الإرادة الشعبية: فشل اتفاقيات السلام السابقة لم يكن فشلًا تقنيًا، بل كان فشلًا فلسفيًا: فصلوا السلام عن الشعب، فصار السلام غريبًا والشعب غريبًا. السلام الذي يُفرض من فوق كالغيث، الذي يأتي بلا سقف يستظل به، يروي الأرض لحظة ثم يجف أثره.
يمكن الاستفادة من تجربة جنوب إفريقيا حيث لم يكتمل السلام بمجرد توقيع اتفاقية، بل من خلال (لجان الحقيقة والمصالحة)، التي حولت آلام الماضي إلى أساس أخلاقي للمستقبل. وعلى العكس، فإن اتفاقية السلام الشامل في السودان عام 2005 فشلت لأنها فصلت بين النص المكتوب وبين الناس الذين يفترض أن يعيشوه.
ثانيًا: آليات المشاركة – من التمثيل إلى التمثيلية:
1. المؤتمرات الشعبية: الديمقراطية الحوارية: المؤتمرات الشعبية المحلية ليست مجرد قنوات اتصال، بل هي فضاءات وجودية حيث يتحول المواطن من متلقٍ إلى فاعل، من ممثل إلى مُمثِل. هنا، في هذه المساحات الصغيرة، تُولد السياسة من رحم الحياة، لا من بروتوكولات السلطة.
2. الاستفتاءات: الإرادة المباشرة كحق وجودي: الاستفتاءات الشعبية حول قضايا السلام المصيرية هي تجسيد لفلسفة (الديمقراطية التشاركية)، التي ترفض احتكار النخب للقرار المصيري. هي اعتراف بأن الشعب ليس قاصرًا يحتاج إلى وصاية، بل هو بالغ قادر على تقرير مصيره.
3. منظمات المجتمع المدني: الجسر الحيوي: منظمات المجتمع المدني هي ذلك الجسر الحيوي، الذي يربط بين القاعدة والقمة، بين الهم اليومي والرؤية الاستراتيجية. لكن شرط أن تظل هذه المنظمات (مرآة) للشعب، لا (مترجم) للنخب.
ثالثًا: القوى الاجتماعية – من التهميش إلى الفعل المركزي
1. الشباب: من طاقة التدمير إلى طاقة البناء: الشباب، الذي خرج إلى الشوارع ليهدم نظام الاستبداد، هو نفسه القادر على الخروج إلى الساحات ليبني نظام الحرية. تحويل طاقة الثورة إلى طاقة بناء هو أعقد تحول وجودي: من الرفض إلى الإبداع، من الهدم إلى البناء.
تشير التقديرات الديمغرافية إلى أن ما يقرب من 60% من السودانيين هم تحت سن الثلاثين. هذه الكتلة العمرية ليست فقط أغلبية صامتة، بل هي الأغلبية القادرة على تحويل إرث ديسمبر إلى مشروع وطني مستدام إذا ما أُعطيت أدوات المشاركة والقرار.
2. المرأة: من ضحية إلى فاعلة: المرأة التي تحملت وطأة الحرب كضحية، هي الأقدر على قيادة السلام كصانعة. خبرتها في الحفاظ على الحياة تحت وطأة الموت تؤهلها لإدارة الحياة بعد زوال الموت. سلام المرأة ليس شعارًا، بل هو فلسفة قائمة على ثقافة الحياة في مواجهة ثقافة الموت. أكثر من ثلثي النازحين داخليًا في السودان نساء وأطفال، ما يجعل المرأة في قلب معادلة السلام، ليس فقط كرمز معنوي، بل كفاعل اقتصادي واجتماعي وسياسي.
3. النخب المثقفة: من البرج العاجي إلى ساحة الفعل: النخب المثقفة مدعوة اليوم إلى هجر (صالونات الترف الفكري) والنزول إلى (ساحات المعركة الوجودية). المثقف ليس من يصف الدواء من برجه العاجي، بل من ينزل إلى الحقل ليزرع بيديه بذور التغيير.
رابعًا: التحديات – من الاستقطاب إلى التكامل:
1. الاستقطاب المجتمعي: المرض الوجودي استمرار حالة الاستقطاب المجتمعي هو مثل السرطان، الذي ينخر في جسد الوطن. علاجه ليس بالقضاء على الاختلاف، بل بتحويله من مصدر للصراع إلى مصدر للثراء. الاختلاف ليس عيبًا، بل العيب هو تحويله إلى أداة للتفكيك.
2. ضعف البنى التنظيمية: الإعاقة الهيكلية: ضعف البنى التنظيمية للقوى الاجتماعية هو إعاقة هيكلية تتطلب ليس فقط بناء مؤسسات، بل بناء ثقافة تنظيمية تقوم على قيم التضامن والتكامل.
3. استغلال المشاعر: السياسة كخديعة: محاولات استغلال المشاعر الشعبية لأغراض سياسية هي خيانة للثقة، وتفريغ للسياسة من مضمونها الأخلاقي. السياسة هنا تتحول من فن إدارة الشأن العام إلى فن خداع الجماهير.
الخاتمة: السلام ليس منتجًا جاهزًا يمكن استيراده، بل هو نسيج وطني يصنعه الشعب بخيوط من الألم والأمل. الجماهير ليست متلقية للسلام، بل هي صانعته الحقيقي. أي مسار للسلام يجب أن يبدأ من القاعدة لا من القمة، من الإرادة الشعبية لا من حسابات النخب. (لا سلام بلا شعب، ولا شعب بلا سلام) – هذه المعادلة الوجودية تذكرنا أن السلام الحقيقي هو ذلك الذي ينبع من صميم المعاناة، لا الذي يفرض من فوق كمنة من حاكم أو وسيط دولي.
الشعب السوداني علم العالم كيف تسقط الطغاة، وهو اليوم مدعو ليعلم العالم كيف تبنى الأوطان. من ثورة ديسمبر إلى سلام ديسمبر، رحلة شعب من رفض الموت إلى اختيار الحياة، من كراهية الاستبداد إلى حب الحرية، من ثورة الشوارع إلى ثورة البناء.
Leave a Reply