كان جَريحْ وكانوا.. أطِباء!

صحيفة الهدف

محمد المبروك
#ملف_الهدف_الثقافي
هلا بالخميس، أوان ليالي الأنس في الميدان الشرقي، النسيم رائق والجو هادئ على هاتيك السفوح.. سقفنا السماء وثريّاتنا النجوم وستائرنا أشعة القمر، وقد أولينا ظهرنا لقسم النبات.. سكر بنات..
كتاب القَعْدّات “كان جَرِيحْ وكانوا.. أطِباء!”
حَدّثَنَا مَاكْ وكان متكئًا فجلس: “مسحتُ بعينيّ نسر رسالة SMS وصلت شاشة هاتفي للتو ممن تُدعى في قائمة جهات الاتصال باسم (Rain).. رسالة مضغوطة الكلمات ومحسوبة الأحرف كي لا تتجاوز تعرِفة رسالة واحدة: (تعال المُجمَع، عندنا قعدة بي “مسعود” وعين الحسود فيها “عود”).
أسرجتُ بَعِيري ومشيت، ولغيرك ما عَنيتْ “فأحفظ سِري يا دكتور العيون!”
طويت السهل الإستوائي الذي كان، ثم إنكمش بفعل الدهور والسنين إلى دائرة صغيرة مفتوحة كحدوة الحصان، هي الآن الخرطوم شرق.. منهَل المثقفين العذب ومتاهة الإنتلجنسيا. خيبها الله. لعنتها في سِرِي.. الأنتلجنسيا.
عند بُقعة سانت جيمس انعطفتُ جنوبًا وسرتُ حتى واجهني المشفى العريق، فدرتُ غربًا وحين لاح المريديان اتخذتُ الجنوبَ سربًا. على يمينك زيورخ، وعلى يسارك إستاك، وفي المدى هناك أقصى الأمام بقايا سكك حديدية تعود لزمن غابر، وهنا خلفها يربض الوحش مطويًا وسط عوالي الشجر، ميّاد الغصون..
إنه يا سادتي، المُجمَع الطبي.. علَّهُ يشبه الكابيتول هول إذا نظرتَ إليه بعين الرضا، هذا إن كنت تعرف ما هو الكابيتول هول بالطبع.
تفاديت منه الصيدلة، ودلفتُ إلى البستان الطبي من بوابته. إذ الخير كله في دخول البيوتَ من أبوابِها. عقلتُ البعير غير بعيد وتوكّلت، منسربًا إلى جنةٍ عرضها الشرايين والأوردة.
تجاوزتُ بنجاح مصيدة ميري[3]، إذ فاحت في وجهي غلالة سحاب يُشَكِّلها دخان البُن وروائح القرنفل المُغرية بالتهوّر والاحتساء.
هناك، جهة قاعة البغدادي، نصبوا الخيمة لنقاد الغناء، وعلى العرش جلس الفنان في يسراه العود وفي يمناه الريشة، وأمامه اضطجعت الجموع. سيشرحها بمشرط سَنِيٍّ هو ناي الموسيقى السحري.. شفاءً لمن سيكون لعلّة الدنيا طبيب!
يُقال إن الموسيقى هي مطهّر الروح، ويُقال إن العوّاد إنما يعزف على شرايين القلب.
تمهلتُ برهةً جوار الخَيمة ذات الباب الواحد، أُخَمِّن اتجاه إيقاعات الحضور الحفيّل تحت ظلها الظليل.
القوم في الداخل صرعى الارتقاء إذن. لا صوت ناشز، ولا حتى همسة.. كأن على رؤوسهم طير الجنة.
آنئذٍ مضى مايسترو اللحظة يستدعي بأنامله ذاكرة البلاد.. البلاد التي تكاد تكون مجردة من كل شيء سوى الغناء الصدّاح.
صانعًا – مايسترو اللحظة – من أزيز النقارة ورنين جرس الهوادج “توليفة صوفية سرّية”، أودعها الأذان والقلوب، فسرت شهدًا في العروق، ودوّيًا صافيًا في تلافيف الأدمغة.
كان العود يرِن، وكان حامل العود يئن، كما حنين الفصيل.. يستدعي أولئك الذين مروا من هنا ويسترجع: “يا حِليلهُم دوام بطراهم!”.. انتظرتُ حتى اقتربت نهاية الأنشودة.. هناك تميمة في مسارب هذه الأغنية، حَذِاري أن تُعلِّقها حول عنقك! همستُ لنفسي.
خطوتُ للداخل دون أن أفحص موضِع رجليّ.. ودون أن أضبط حال طلّتي مع مسرى النشيد. خطوتين للداخل ثم كان ما كان!
في حين تتابعت الوقائع بسرعة الصوت، تأكدتُ بأن ما كان حدسًا لي صار يقينًا.
بعد سنوات طويلة سأظل أسأل نفسي مثلما طرح بطل الموسم السؤال على نفسه: هل كان ممكنًا تفادي ما حدث!؟
“من رواية (خيول الريح، سيرة أبطال الـ Main Road”)

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.