
أ. طارق عبد اللطيف أبو عكرمة
#آراء_حرة
المرحلة الانتقالية ليست مجرد فصل زمني قصير يفصل بين حرب مدمرة وسلام مأمول، بل هي لحظة وجودية يعيد فيها الوطن تعريف ذاته ومعناه. إنها الزمن، الذي يقف فيه السودان أمام مرآة تاريخه، يرى جراحه وأشباح ماضيه، لكنه يلمح أيضًا ملامح المستقبل الممكن. هي المسافة الفاصلة بين ذاكرة الألم وإرادة التحرر، بين ما كان وما يجب أن يكون. وفي هذا الزمن الهش، لا يكفي أن تُدار السياسة كإدارة أزمة، بل يجب أن تتحول إلى فن إعادة صياغة الإنسان والمجتمع والعقد الاجتماعي بأسره.
أولًا: الحكومة الانتقالية – من شرعية القوة إلى قوة الشرعية:
الحكومة الانتقالية، في هذا السياق، ليست مجرد سلطة مؤقتة، بل امتحان للشرعية ذاتها. الشرعية هنا لا تقوم على قوة السلاح، بل على قوة المعنى، على القبول الجمعي، الذي يدرك أن زمن العام الواحد، بما فيه من ضغط وتكثيف، ليس ترفًا إجرائيًا بل ضرورة فلسفية. وكما يلي:
- الزمن المضغوط: فلسفة العام الواحد: عام واحد يكفي كي يُثبت أن الانتقال ليس إقامة دائمة في المؤقت، وقصير بما يحول دون أن تتحول السلطة إلى غاية في ذاتها. فهو زمن كافٍ لتحقيق الإنجاز، إنه تأكيد أن الشرعية الانتقالية شرعية مؤقتة، هدفها التأسيس لشرعية دائمة تقوم على الإرادة الشعبية.
- الكفاءة كمعيار وجودي: إن معيار الكفاءة في هذا الزمن ليس تقنيًا فحسب، بل أخلاقي في جوهره: الكفاءة هي أن يكون المرء قادرًا على خدمة الصالح العام فوق كل مصلحة، وعلى أن يكون صوتًا لضمير الجماعة لا أسيرًا لمكاسبها الصغيرة. كفاءات متفق على أسس اختيارها – هذه العبارة تحمل في طياتها ثورة على ثقافة المحاصصة والولاءات الضيقة.
- استعادة الحياة الطبيعية: من الوجود إلى المعنى: في استعادة الحياة الطبيعية بعد الخراب، لا يعود الأمر إلى إعادة تشغيل شبكات الكهرباء والمياه والخدمات وحسب، بل إلى استعادة معنى الحياة نفسها. فالحرب لا تدمر الحجر وحده، بل تدمر الإحساس بالطمأنينة والمعنى. أن تضيء الكهرباء بيتًا هو أن تعيد الأمل لقلب طفل، وأن تجري المياه في الأنابيب هو أن تعيد إيمان الناس بأن الحياة تستحق أن تُعاش.
ثانياً: الأولويات التنفيذية – من إدارة الأزمة إلى صناعة المستقبل:
هذه العودة لا تكتمل إلا بالتالي:
- مؤسسات الدولة: (من أدوات القمع إلى أدوات الخدمة): ما لم تتحول مؤسسات الدولة من أدوات قمع إلى أدوات خدمة. فالمؤسسة، التي كانت سوطًا بيد السلطة يجب أن تصير ذراعًا للشعب. هذا ليس مجرد إصلاح إداري، بل (ثورة داخل الثورة)، تغيير فلسفة الدولة من حراسة السلطة إلى خدمة الإنسان.
- الخدمات الأساسية: (من حق إلى واجب وجودي): كذلك فإن إعادة الخدمات ليست منحة من حاكم، بل هي حق وجودي لا ينفصل عن كرامة الإنسان. فمن دون الصحة والتعليم والماء والكهرباء لا يكون الإنسان إنسانًا، بل مجرد كائن محاصر بغريزة البقاء.
- سبل المعيشة: (من الكفاف إلى الكرامة): الانتقال من الكفاف إلى الكرامة هو جوهر كل إصلاح، شعب منشغل بالخبز اليومي لا يمكنه أن يحلم بمستقبل حر، والوطن الجائع يظل أسيرًا حتى وإن رفع أعلام الحرية.
ثالثًا: من الإرادة المفوضة إلى الإرادة المباشرة:
ومن هنا تأتي الانتخابات التشريعية كترجمة للإرادة الشعبية المباشرة، لا كإعادة إنتاج لموازين القوى القديمة. البرلمان الانتقالي يجب أن يكون مرآة صادقة للشعب، لا صورة كاريكاتورية للنخب، التي فقدت شرعيتها. وهو برلمان يؤسس لحكومة انتقالية تنقل البلاد من مرحلة الإسعاف إلى مرحلة البناء، من معالجة الأعراض إلى معالجة الجذور. وإعادة الإعمار في هذا السياق ليست مجرد إعادة بناء لما تهدم، بل إعادة صياغة لفضاء الوجود نفسه: مدارس تُزرع مكان الثكنات، مستشفيات تقوم مقام المعتقلات، حدائق تحل محل ساحات القتال.
رابعًا: استكمال الثورة – من الحرية السياسية إلى التحرر الإنساني:
لكن كل ذلك لن يكتمل إلا باستكمال الثورة، إذ الحرية، التي لا تتجسد في ممارسة يومية تبقى شعارًا فارغًا، والعدالة، التي لا تتجاوز الانتقام تبقى قيدًا جديدًا. الديمقراطية ليست صناديق اقتراع فحسب، بل هي ثقافة حياة، طريقة في التفكير والعيش المشترك. والتنمية الحقيقية لا تتحقق ما لم تكن متوازنة، جغرافيًا واجتماعيًا، بحيث يشعر كل سوداني في الأطراف أنه ليس أقل شأنًا من السوداني في المركز، وأن كرامته غير مشروطة بمكانه.
خاتمة:
المرحلة الانتقالية، إذن، ليست مجرد جسر بين حرب وسلام، بل هي الجسر الوجودي، الذي يعبر عليه الوطن نحو ذاته الجديدة. جسر هش، لكنه قادر أن يحمل ثقل التاريخ إذا ارتكز على دعائم أخلاقية وإنسانية بقدر ما هي سياسية ومادية. فالسودان اليوم يقف على موعد مع نفسه: إما أن يعبر إلى الضفة الأخرى حيث الحرية والكرامة، أو أن يظل أسيرًا لذاكرة الألم. بالتالي المرحلة الانتقالية ليست استراحة بين حربين، بل هي لحظة ولادة لوطن يرفض أن يموت، ويصر على أن تحيا، لا بأي حياة، بل حياة حرة وكريمة، تجعل من الماضي درسًا، ومن الحاضر معبرًا، ومن المستقبل وعدًا قابلًا للتحقق.
#السودان #المرحلة_الانتقالية #الحكم_الانتقالي #وقف_الحرب #إعادة_الإعمار #الديمقراطية #ثورة_السودان
Leave a Reply