بيان البعث حول الرباعية: الدعائم الثلاث.. الأصل يطرح الحل الشامل (2-5)

صحيفة الهدف

أ‌. طارق عبد اللطيف أبوعكرمة

في لحظات الانكسار الكبرى، لا تعود الحلول السياسية مجرد أدوات تقنية، بل تتحول إلى أسئلة وجودية تتعلق بمعنى الحياة ذاتها. فالسودان الذي يرزح تحت ثقل حـرب عبثية لم يعد يواجه مجرد أزمة سلطة، بل مأزقاً يهدد إنسانيته وكيانه الحضاري. هنا تطرح الدعائم الثلاث التي يقدمها حزب البعث، نفسها ليس كخيارات متفرقة، بل كثالوث متكامل يجمع بين الضرورة والأخلاق والحرية، ويجعل من وقف إطــلاق النــار مدخلاً لوقف انكـسـار الكرامة، ومن الإغاثة الإنسانية بداية لإغاثة الضمير، ومن العملية السياسية استعادة للمعنى المفقود.

أولاً: وقف إطـلاق النــار – (من ثقافة المــوت إلى أخلاقيات الحياة):

وقف إطـلاق النـار ليس مجرد لحظة تقنية يتوقف فيها الرصــاص، بل هو انتقال فلسفي من منطق المـوت إلى أخلاقيات الحياة. إنه إعلان أن الــدم لم يعد لغة السياسة، وأن الإنسان أسمى من أن يتحول إلى وقــود في صـراعات بلا أفق. الأمن الوجودي هنا لا يعني غياب العنـف فقط، بل حضور الطمأنينة التي تجعل الأم قادرة على إرسال طفلها إلى المدرسة دون خوف، وتجعل الأب يعود إلى بيته دون رهـبة من الميليشـيات. لكن هذا لا يتحقق ما لم يُنتـزع سـيف العسـكرة من جسد المجتمع، العسكرة غير النظامية هي سـرطان ينخـر في جسـد الوطن، يحول المواطن من ذات فاعلة إلى رقم في معادلة القوة، فإزالة هذه المظاهر تعني استعادة المجتمع لدوره كحاضن للدولة، لا كوقود لحـروبها، وما لم تتحول السياسة من دوي المـدافع إلى حوار عاقل داخل فضاء عمومي آمن. فالسلام يبدأ حين يعود الإنسان إلى ممارسة إنسانيته، لا حين تصمت البنـادق وحسب. فلا حوار تحت دوي المـدافع، ولا تفاوض تحت وطأة الخـوف. وقف إطـلاق النـار هو تهيئة (للحيز العمومي) الذي يمكن أن تجري فيه السياسة كفعل إنساني راقٍ، لا كاستمرار للحـرب بوسائل أخرى.

ثانياً: الإغاثة الإنسانية – من البقاء إلى الكرامة:

أما الإغاثة الإنسانية، فهي أكثر من شاحنات محملة بالمواد الغذائية. إنها فعل رمزي يعيد تعريف قيمة الحياة. فحين يُكسر حصار الجوع، وإزالة القيود عن وصول المساعدات، فهي انتصار لإرادة الحياة على ثقافة الموت. الجوع سـلاح أخلاقي يجب أن يُكسر كما تكسر الأسـلحة. ويُكسر معه منطق تحويل البطون إلى ساحات معـارك. وحين تصل المساعدات إلى كل بقعة، يُعلن أن دمعة طفل في دارفور لا تقل شأناً عن دمعة في الخرطوم، وأن الجغرافيا لا تغيّر من وحدة الألم الإنساني، وبالتالي تخفيف المعـاناة هو اعتراف بأن ألـم السودانيين في دارفور لا يختلف عن ألمهم في الخرطوم، وأن الدمعة واحدة وإن اختلفت الجغرافيا. كما أن الإغاثة هنا ليست مجرد بقاء بيولوجي، بل صون للكرامة، وإعادة تأكيد أن التضامن الإنساني لا ينجو إذا سقطت حرمة العاملين في المجال الإنساني. فمن يهـاجمهم لا يهـاجم أشخاصاً، بل يهـدم آخر ما تبقى من معنى الإنسانية المشترك، لذلك فضمان سلامة العاملين في المجال الإنساني هو دفـاع عن فكرة التضامن الإنساني ذاتها، ومن يهـاجمهم إنما يهـاجم أفضل ما في الإنسانية.

ثالثاً: العملية السياسية – (من ثقافة الاستبعاد إلى فلسفة المشاركة):

لكن لا يكفي أن تتوقف الحـرب وأن تُسد البطون. فالمجتمع الذي يظل أسـير الإغاثة سيظل عالة على الآخرين. وهنا تأتي العملية السياسية لتعيد للسودان إمكانيته الوجودية في أن يكون فاعلاً لا مفعولاً به. السياسة ليست لعبة نخب تتقاسم المقاعد، بل عقد اجتماعي جديد يعيد تعريف (نحن) السودانية على أسس المشاركة لا الإقصاء. لذلك يصبح استبعاد (المؤتمر الوطني، وواجهاته) من العملية السياسية ضرورة علاجية، لا انتقـاماً سياسياً، بل هو عملية جراحية ضرورية لإزالة الورم الخبيث الذي منع الشعب من أن يحكم نفسه بنفسه. لأنه أدي إلى (إفقار الشعب وتفشي الفسـاد وضـياع خيرات الوطن، والمحسوبية، ورهن الوطن للخارج، وتقسيمه، وأزال الشعب وكبت حريته، وقـهر الرجال قبل النساء، ومن ثم اشعال الحـرب وتأجيجها،.. وهلمجرا من المساؤي التي تزكم النفوس ). وفي هذا السياق، يجب أن يُفهم التيسير الدولي بوصفه جسراً مؤقتاً لا عكازاً دائماً، أداة مساعدة تُرمى بمجرد أن يستعيد الجسد عافيته.

خاتمة: إن الدعائم الثلاث لا تعمل كطوابق متراصة في بناية، بل كنظام بيئي مترابط: وقف إطـلاق النـار هو التربة التي تستقبل بذور السلام، والإغاثة الإنسانية هي الماء الذي يحفظها من الجفاف، والعملية السياسية هي الشجرة التي تثمر مجتمعاً جديداً وحياة مشتركة. إذا غابت واحدة، انهار الكل. فكما لا يمكن للجسد أن يحيا بلا روح، ولا للروح أن تتجسد بلا جسد، لا يمكن للسلام أن يستمر دون أن يُقرن وقف القـتال بوقف المعـاناة، ودون أن تتحول المعـاناة إلى وعي سياسي جديد.

السودان اليوم أمام فرصة نادرة، ليست فقط لإنهاء حـرب، بل لابتكار فلسفة جديدة في التعامل مع الصـراع. فلسفة تجعل من الدعائم الثلاث نموذجاً لما يمكن أن تفعله الشعوب حين تخرج من حافة الهاوية لتصنع حياة أرقى. الدعائم الثلاث إذن ليست طريقاً نحو السلام فحسب، بل هي السلام ذاته حين يتحقق في صورته الكاملة: سلام الجسد من رصاص الحـرب، سلام الروح من جوع المعـاناة، وسلام العقل من عبث السياسة.

إن من يفصل بين هذه الدعائم الثلاث كمن يفصل بين الروح والجسد والعقل، فيترك السودان جثة تتحرك بلا روح، أو روحاً تائهة بلا جسد، أو عقلاً محاصـراً بلا حرية. أما جمعها معاً، فهو وحده الكفيل بأن يعيد إلى السودان إنسانيته الضائعة، وأن يمنحه فرصة لأن يكتب فصلاً جديداً في تاريخه، لا تفرضه وصاية الخارج ولا يكتبه سلاح الداخل، بل يصوغه الشعب بإرادته الحرة كمعنى جديد للحياة المشتركة.

يتبع لطفاً،،،،،

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.