
تمهيد: ليست النهضة مجرد مشروع مادي لبناء مدارس وجسور ومصانع، بل هي في جوهرها استعادةٌ للروح. روح الأمة التي تُعرِّف ذاتها، وتستعيد إرادتها، وتصنع مصيرها. وفي المشروع القومي العربي، يبرز سؤال الإسلام ليس كطقس ديني منعزل، بل كقوة روحية وكثقافة حية كانت ولا تزال تشكّل العمق الحضاري والوجداني للأمة العربية. فكيف يمكن لهذه القوة أن تكون محرّكاً للنهضة، لا عائقاً أمامها؟ وكيف نقرأ الإسلام قراءةً تجعله شريكاً في بناء المستقبل، لا سجيناً للماضي؟
1. الإسلام كقوة روحية أخلاقية: (العدالة والتعدد والوجدان الجمعي): ليس الإسلام مجرد نصوصٍ جامدة، بل هو في أساسه منظومة قيم كبرى تصلح لأن تكون أساساً لأخلاقيات النهضة. فقيمة العدالة – التي هي من أسماء الله الحسنى – ليست مجرد مطلب ديني، بل هي شرطٌ أساسي لأي نموذج تنموي ناجح. والعدالة الاجتماعية والاقتصادية التي ننشدها في مشروعنا القومي هي، في بعدها الجوهري، تجسيدٌ لروح الإسلام التي ترفض الظلم والاستغلال.
كذلك، فإن قيمة التعدد – (وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا) – تقدم إطاراً أخلاقياً راسخاً للتعايش في المجتمع العربي متعدد المذاهب والأعراق، بعيداً عن منطق الإقصاء والتكفير. وهنا، يتحول الإسلام من أيديولوجيا مغلقة إلى فضاء روحي مفتوح، يغذي النهضة بأخلاقيات التسامح والتعاون، ويبني (الوجدان الجمعي) للأمة العربية على أسسٍ من الاحترام المتبادل. حيث قال الأستاذ ميشيل عفلق (كان محمد كل العرب، فليكن كل العرب اليوم محمدًا). (في ذكرى الرسول العربي، 1943)
2. الموقف من الشريعة: (من فقه النص إلى فقه المقاصد والقيمة): إشكالية (الشريعة) هي من أكثر الإشكاليات التي شُوهت وأُسيء فهمها. فبدلاً من اختزال الشريعة في (حدود وعقوبات)، يجب ردّها إلى مقاصدها العليا التي حددها (الإمام الشاطبي)، في: حفظ الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال. هذه المقاصد ليست سوى القيم الكبرى التي تسعى أي دولة مدنية عادلة إلى تحقيقها.
فالنهضة تحتاج إلى فقهٍ جديد، فقهٍ ينتقل من السجال حول (تطبيق الشريعة) كمدونة قانونية جاهزة، إلى استلهام روح الشريعة وقيمها في بناء التشريعات الحديثة. فقيمة (العدل) يمكن أن تتجسد في قوانين مكافحة الفساد، وقيمة (الكرامة) في قوانين الضمان الاجتماعي، وقيمة (الشورى) في بناء الديمقراطية التشاركية. بالتالي فالدين هنا يصبح مصدر إلهام قيمي، وليس بديلاً عن العقل والتشريع الوضعي.
3. الصوفية والمعتدلون: (شركاء في صناعة الوجدان): لا يمكن فصل روح الإسلام عن تجلياته الاجتماعية والثقافية. وفي هذا الإطار، تبرز الطرق الصوفية والحركات الدينية المعتدلة كخزّان هائل للروحانية العربية الإسلامية، وكحاضنة للتنوع والتسامح. هذه الجماعات ليست (بديلاً) عن الإسلام، بل هي التيار الرئيسي الصامت الذي حافظ على استقرار المجتمع العربي لقرون.
مشروع النهضة مطالب باحتضان هذه القوى، لا إقصاءها. فبدلاً من معاداتها أو محاولة تهميشها تحت شعار (التحديث)، يمكن دمجها في المشروع القومي كشريكٍ فاعل في ترسيخ قيم الانتماء والتضامن الاجتماعي، ومقاومة التطرف من الداخل. الصوفية، بتأكيدها على البعد الباطني والأخلاقي، يمكن أن تكون سدّاً منيعاً في وجه تيارات التشدد التي تجّمد الدين وتفرغه من روحه. لقد أثبتت التجارب الثورية في الجزائر وفلسطين والعراق أن الإسلام حين يُحرّر من الطائفية يصبح راية جامعة للتعبئة الشعبية، تعلو على العصبيات، وتوحد الجماهير خلف هدف التحرر.
4. نحو ثورة عقلانية من الداخل: ( إصلاح الفكر لا قطع الجذور): أخطر ما يمكن أن يقع فيه مشروع النهضة هو اعتبار الدين عدواً يجب تجاوزه، أو تراثاً يجب قطعه. هذا المنطق الثوري (الخارجي) عن الإسلام قد ينتج قطيعةً خطيرة بين قادة المجتمع والجماهير، ويفقد المشروع قاعدته الشعبية. يقول الأستاذ ميشيل عفلق: (الدين إذا لم يكن قوة تحرر، فإنه يصبح دينًا مزيفًا) (خطب ومقالات، 1959).
المطلوب إذاً هو ثورة عقلانية من داخل التراث الإسلامي نفسه. ثورة تقوم على نقد التراث دون تمجيده أو إلغائه، عبر آليات:
أ. إعادة قراءة النص قراءة تاريخية منهجية متعمقة، تفرق بين الثابت والمتغير.
ب. تفعيل العقل عبر منهج استنباطي جديد يستلهم المقاصد ويواكب مستجدات العصر.
ت. تحرير الدين من سيطرة المؤسسة الدينية الرسمية التي غالباً ما تحوله إلى أداة للسلطة.
هذه الثورة هي استئنافٌ لمشروع تنويري عربي- إسلامي قديم، بدأ مع رواد مثل جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، وعبد الرحمن الكواكبي، الذين سعوا إلى التوفيق بين الأصالة والحداثة، وبين الإسلام والنهضة.
خاتمة: (نحو عقد اجتماعي جديد): إن العلاقة بين المسجد والمجتمع في مشروع النهضة ليست علاقة صراع، بل هي علاقة تكوين متبادل. المسجد ليس مكان عبادة فقط، بل كان دائمًا مركزًا للتعليم والتعبئة والتكافل، بالتالي المسجد ينبغي أن يكون مؤسسة مجتمعية بقدر ما هي روحية، ومن هنا تأتي الدعوة لتحريره من الاستغلال السياسي ليعود منبرًا للوحدة والوعي.
فالمسجد يقدم الروح والأخلاق والقيم، والمجتمع يقدم العقل والتشريع والتجديد. فالنهضة التي نريدها هي التي تستطيع أن تخلق نسيجاً عضوياً بين هذين القطبين، لخلق عقد اجتماعي جديد، يكون الإسلام فيه روحاً ملهمة للأمة العربية، والعقل فيه وسيلة للتقدم، والحرية فيه غاية للجميع. بالتالي فالإسلام ليس أداة طائفية ولا سلطة فقهية، بل طاقة تحررية تُستنهض في معركة الأمة العربية ضد الاستعمار والتجزئة. ليس الإسلام هو المشكلة، بل القراءة السائدة للإسلام. وليس العائق هو الدين، بل الاستبداد السياسي الذي شوّه الدين والدولة معاً. وبالتالي تحرير الإسلام من الاستغلال السلطوي هو تحرير للعقل من الاستلاب، وللأمة العربية من التجزئة، وهو شرط النهضة القومية ورسالتها الخالدة.
Leave a Reply