الخطوة الأخيرة لدمار الإنسان في السودان

صحيفة الهدف

بقلم: د. سلمى نايل

هناك لحظات في تاريخ الأمم لا تُقاس بعدد القنابل أو طوفان الكلمات اليومية؛ بل بثقوبٍ صغيرة تتسع ببطء في جسد المجتمع حتى ينهار من الداخل. السودان اليوم يقترب من لحظةٍ كهذه — خطوة أخيرة تبدو بسيطة على وهجها، لكنها تكفي لأن تتحوّل معاناة يومية إلى قِصةٍ من الضياع؛ موتٌ بطيء، وبؤر وبائية، وانهيار اقتصادي ينهش آخر ما تبقى من كرامة.

الموت البطيء جوعٌ يكسب أسماءً جديدة

الموت البطيء ليس خبراً واحداً؛ بل سلسلة من الودائع المتكررة؛ طفل لا يكمل فصل المدرسة لأن والده مضطر للعمل بعربته، مريضة لا تجد دواءها، أسرة نزحت وخيامها تزداد ضيقاً. إنه ذلك الانكماش اليومي لفرص الحياة، انخفاضٍ في التغذية، تدهورٍ في الصحة، وتآكل مستمر في الأمل. الحرب لا تقتل فقط بالرصاص، بل تقتل بالهدر؛ هدر التعليم، هدر المستقبل، وهدر الأحلام. والموت البطيء هو ذلك الضجيج الخافت الذي لا يراه المارة؛ صوت يتصاعد في سوقٍ فارغ وفي فصلٍ دراسي بلا دفء.

حمى الضنك — وباءٌ يطرق أبواب ضحايا الحرب

حين تنهار البنية التحتية، تصبح الأمراض أكثر وفاءً للظروف من البشر. حمى الضنك، التي كانت على هامش الاهتمام، أصبحت الآن بطلاً بلا منازع في مشهد الموت البطيء. مياهٌ راكدة في كل مكان، بقايا جثث وجماجم منتشره في الطرقات، وصرف صحيّ متعطل، كلها عوامل جعلت من البعوض ناقلاً لإضافةٍ قاتلة على لائحة المعاناة. في زمن الحرب، لا يكتفي الموت بإطلاق النار؛ فهو أيضاً يرسل بعثات صغيرة من الحشرات تسرق الأجساد الضعيفة. المريض الذي لا يجد سريراً، والأسرة التي تضيع في البحث عن دواء، كل ذلك يضع حمى الضنك في مقدمة أزمات تُسرق فيها الأرواح بهدوءٍ مُعيّن.

بطل المشهد — من أقصينا من الأعين؟

من هو بطل المشهد؟ هل هو القائد العسكري؟ أم الفاعل الدولي؟ أم الاقتصاد المتهالك؟ الواقع الموجع أن بطل المشهد هو مزيج من الإهمال والتواطؤ واللامبالاة أنظمة فشلت في حماية الناس، ونُخبٌ ضلّت الطريق، ومجتمعٌ مُنهك لا يجد من ينقذه. وفي قلب هذا المشهد يقف الإنسان السوداني — ليس كبطل خارق، بل كبطلٍ يومي يتحمل ويفقد ويصمد. هو الأم التي تقيس الطعام على مدى الأيام، هو الطفل الذي يلعب وسط الحفر، هو الطبيب الذي يحاول إنقاذ مريضٍ بلا معدات. هذه البطولة الصغيرة هي شهادةٌ على عظمةٍ ما زالتْ باقية، لكنها ليست كافية لردع تسارع الانهيار.

انهيار الاقتصاد — الفَقْدُ الذي يقرعُ أبواب الحياة

الاقتصاد المنهار هو الظل الطويل لكل أزمة: فقدان العملة، ارتفاع الأسعار، تعطّل سلاسل الإمداد، وتآكل القدرة الشرائية. عندما يتوقف الاقتصاد، تتوقف الحياة البسيطة؛ الخبز يصبح ترفاً، النقل يصبح مغامرة، والاستشفاء يتحوّل إلى مقامرة. الانهيار الاقتصادي لا يكتفي بتجريد الناس من ممتلكاتهم، بل يسرق ثقة الأجيال في المستقبل. ومع ضعف الموارد، تصبح مواجهة الأمراض مثل حمى الضنك أمراً صعب التحقيق؛ فإمدادات الأدوية تقل، وبرامج الوقاية تتوقف، والمواطن يتحوّل إلى رقم في قائمة انتظار طويلة لا نهاية لها.

خطوة أخيرة أم مفترق طرق؟

الخطوة الأخيرة لدمار الإنسان في السودان ليست حدثاً مفصلياً واحداً؛ إنها تراكمٌ من قراراتٍ سيئةٍ وإهمالٍ طويل. لكن في كل غروبٍ قاتم، هناك شمسٌ صغيرة تلمع؛ مبادرة مجتمعية، فريق طبي متطوع، مبادرة أقلت مياه الأمطار، أو مدرسةٍ فتحت أبوابها رغم الصعاب. لا يمكننا إنقاذ السودان بخبرٍ واحد أو تبرعٍ لمرةٍ واحدة، لكن بإعادة ترتيب الأولويات؛ حماية الصحة العامة، استعادة الاقتصاد المحلي، ودعم النسيج الاجتماعي، يمكن أن تُحول الخطوة الأخيرة إلى نقطة بداية جديدة.

نداء أخير: لنتذكر أن الإنسانية لا تُقاس بمساحات الأرض التي نحتلها، بل بمدى الاهتمام الذي نمنحه لأضعفنا. إنقاذ السودان يبدأ بإنقاذ كل إنسانٍ يَحاول البقاء من خلال سلامةٍ مستدامة، اقتصادٍ عادلٍ، ونظام صحي يحمي الجميع من حمىٍ لا تُرى إلا بما تتركه من جثث الأمل.

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.