
منذ عقودٍ ظلّت التجارب الانتقالية في السودان تحاصرها المزالق ذاتها: الإطالة غير المبررة، غياب القيادة الواضحة، وتضارب الأولويات. من أكتوبر 1964م إلى أبريل 1985م ثم ديسمبر 2018م، تكشف الوقائع أن طول الفترة الانتقالية لم يكن مدخلاً إلى النضج، بل بوابةً إلى تآكل الشرعية، وتمكين قوى الردة، وفتح المجال أمام الانقسامات والتدخلات الخارجية.
الرؤية البعثية منذ فبراير 2022م، والمجدَّدة ببيان القيادة القطرية في سبتمبر 2025م “يجب أن تُفضي هذه العملية، التوافق على برنامجها، إلى قيام حكومة انتقالية مؤقتة، من كفاءات متفق على أسس اختيارها، لمدة لا تتجاوز العام تنجز مهامها بالتوازي، ويكون هدفها الأساسي استعادة الحد الأدنى من الحياة الطبيعية للمواطنين، مثل توفر الأمن واستئناف عمل مؤسسات الدولة، والخدمات الضرورية في الصحة والتعليم والمياه وصحة البيئة والكهرباء، وتيسير سبل المعيشة… إلخ. إضافة للتحضير لانتخابات تشريعية لاختيار برلمان انتقالي، هذا البرلمان هو الذي سوف يشكل لاحقًا حكومة انتقالية، لتنفيذ برنامج مرحلة ما بعد وقف الحرب، وإعادة الإعمار واستكمال مهام انتفاضة ديسمبر الثورية.”*
، تقترح بديلاً واضحاً: فترة انتقالية قصيرة لا تتجاوز العام، ذات برنامج محصور في مهام عاجلة. فهي لا تحتمل أن تتحول إلى ميدان تجريب لمشروعات مؤجلة أو أجندات خارجية، بل يجب أن تركز على وقف الحرب، وصول المساعدات الإنسانية، تخفيف المعاناة المعيشية، تحقيق الأمن، توحيد الجيش، إعادة بناء ما يمكن من المؤسسات المدنية، والتحضير لانتخابات عامة حرة بإشراف دولي.
دروس الماضي تكشف أن القوى المعادية للانتقال الديمقراطي طالما استثمرت في إطالة المراحل الانتقالية لتفكيك السلطة وإرباك مكوناتها. كما أن مشاركة العسكر الملتبسة وغياب إعلام موحّد واعٍ بالمهام أسهما في إضعاف السلطة السابقة. وفي هذا السياق، يأتي التطبيع مع الكيان الصهيوني مثالاً صارخاً على القضايا المضللة؛ فهو ليس من مهام الفترة الانتقالية، بل شأن حكومة منتخبة تملك تفويضاً شعبياً. ثم إن موقف السودان التاريخي محسوم منذ مؤتمر الخرطوم 1967م (اللاءات الثلاث: لا صلح، لا اعتراف، لا تفاوض) وهو ما لا يجوز القفز فوقه في ظل وضع انتقالي هش.
هنا يبرز التمييز بين المهام العاجلة والمهام الطويلة الأمد. فإعادة الإعمار وإصلاح الاقتصاد جذرياً شأن حكومة منتخبة ذات تفويض شعبي، أما مهام الانتقال فهي الانتعاش المؤقت، وتهيئة المناخ السياسي، وإطلاق العملية الانتخابية.
الجبهة الشعبية العريضة هي الأداة الممكنة لحشد الرأي العام وتحصينه ضد دعاة الحرب والمستفيدين من استمرارها. فالتجارب الدولية تحمل دروساً ثمينة: فشل التجربة السورية حيث التفت القوى الإقليمية والدولية على إرادة الشعب، مقابل نجاح جنوب أفريقيا حين انضبطت القوى السياسية ببرنامج قصير وواضح.
فلنتفق كقوي حية تمثل الرأي العام وحولنا سياج شعبي واسع إن السودان لا يحتمل فترة انتقالية مفتوحة تُهدر الوقت وتضاعف الأزمات. وحدها فترة قصيرة، متفق على مهامها، وقادرة على صناعة رأي عام صلب، تمثل الضمانة لعبور آمن نحو سلطة منتخبة تملك الشرعية الشعبية الكاملة.
Leave a Reply