
وجد السودان نفسه عند حافة هاوية التاريخ، في حرب عبثية تدخل عامها الثالث، وأرض منهكة تتنازعها شهوات الداخل وتقاطعات الخارج. في هذا السياق جاء بيان الرباعية في الثاني عشر من سبتمبر 2025، ليفتح باباً على احتمالين متناقضين: أن يكون بداية لمسار سلام عادل، أو أن يتحول إلى بوابة لوصاية جديدة. وبين هذين الاحتمالين، يتقدم حزب البعث العربي الاشتراكي (الأصل) – قيادة قطر السودان – في السادس عشر من سبتمبر 2025 برؤية تسعى إلى الموازنة بين الاستفادة من التيسير الدولي، والتمسك برفض أي شكل من أشكال الوصاية.
1. الإطار المفاهيمي:( التيسير، الوصاية، السيادة):
التيسير (Facilitation): هو دور داعم تقدمه الجهات الدولية أو الإقليمية لتمكين الإرادة الوطنية دون التدخل في صنع القرار. يعمل المُيَسِّر كوسيط محايد يقدم الخبرات التقنية والموارد اللوجستية والدعم السياسي، مع الحفاظ الكامل على حق الدولة في القيادة والاختيار.
الوصاية: (Tutelage): هي علاقة هرمية غير متكافئة حيث تفرض جهة خارجية إرادتها على الدولة، متخذةً قرارات نيابة عنها أو مجبرة إياها على تبني سياسات لا تتوافق مع مصالحها الوطنية. الوصاية تنطوي على انتقاص صريح للسيادة وتُمثل شكلاً من أشكال الهيمنة السياسية أو الاقتصادية أو الثقافية.
السيادة: (Sovereignty): هي الحق غير القابل للتصرف للوطن في حكم نفسه بنفسه، واتخاذ قراراته المستقلة، وإدارة شؤونه الداخلية والخارجية دون تدخل خارجي. السيادة ليست مجرد مفهوم قانوني، بل هي التعبير العملي عن الإرادة الجماعية للشعب وهويته الوطنية.
الموقف من المبادرات الدولية – بين الصدق والمصلحة: الترحيب بالمبادرات الدولية ليس في ذاته انتقاصاً من السيادة، بل إدراك لواقع عالمي معقد لا يمكن تجاوزه بالانعزال أو الشعارات. غير أن المعيار الفاصل هو صدق النية. المبادرة الدولية تكون ذات قيمة إذا وضعت مصلحة السودان وإرادة شعبه فوق أي اعتبار آخر. أما إذا تحولت إلى أداة لتصفية الحسابات أو إعادة إنتاج التبعية، فإنها تصبح عبئاً جديداً على بلد يرزح أصلاً تحت أثقال التاريخ والحاضر. التعامل الواعي مع هذه المبادرات يتطلب عقلاً نقدياً يميّز بين من يرى في السودان مجرد ساحة نفوذ، ومن يراه وطناً يستحق أن يُعامل باعتباره غاية في ذاته.
التوازن الصعب – الإرادة الوطنية فوق التيسير الدولي: لكن المعضلة الكبرى تبقى في التوازن بين الإرادة الوطنية والتيسير الدولي. فكيف يمكن قبول المساعدة دون الوقوع في فخ الوصاية؟ الجواب يكمن في فلسفة الحد الأدنى، أي أن يكون المجتمع الدولي ميسراً للحوار، لا قائداً له، و أن يكون داعماً للإرادة الوطنية، لا بديلاً عنها، و أن تخضع كل مساهمة خارجية لشرط القبول الوطني، لا أن تُفرض كأمر واقع. هذا التوازن ليس ترفاً نظرياً، بل ضرورة وجودية، فالسودان لا يكون حراً حقاً إلا إذا كان صانعاً لقراره، لا متلقياً لإملاءات الآخرين.
السيادة والشرعية – الإرادة الشعبية كأساس: إن السيادة ليست شعاراً يرفع في المناسبات، بل حق أصيل وواجب لا يقبل المساومة. وهي تقوم على ثلاث مرتكزات: حق تقرير المصير الذي لا ينتظر إذناً من أحد، وتقاليد النضال السلمي والديمقراطي التي خطها الشعب السوداني بدمائه وتضحياته، والرفض المطلق لأي شكل من أشكال الوصاية السياسية أو العسكرية أو الاقتصادية. فالوصاية ليست مجرد خطأ سياسي، بل هي إنكار لإنسانية الشعب وإهانة لكرامته، ورفضها واجب وجودي قبل أن يكون خياراً سياسياً.
من هنا فإن بيان الرباعية يمثل فرصة نادرة لكسر حلقة العنف والدمار، لكنه قد يتحول إلى مأزق إذا استُخدم لإدارة الأزمة بدلاً من حلها. السودان اليوم أمام مفترق طرق، إما أن يوظف هذه اللحظة لبناء سلام حقيقي بإرادته الحرة، أو أن يغدو مجرد ساحة إضافية في صراع القوى الكبرى. الخيار الأول يتطلب حكمة في الاستفادة من التيسير الدولي، وشجاعة في رفض كل أشكال الوصاية، ووعياً بأن السلام الحقيقي لا يُمنح من الخارج بل يُصنع بأيدي السودانيين أنفسهم.
بهذا المعنى، فإن معركة السودان ليست فقط مع الحرب المشتعلة، بل مع إعادة تعريف السيادة والحرية. إنها معركة على المعنى ذاته، هل يكون السودان وطناً يصوغ مستقبله بقراره المستقل، أم يبقى رهينة لإرادات الآخرين؟ الجواب مرهون بقدرة السودانيين على تحويل بيان الرباعية من مجرد نص دبلوماسي إلى نقطة انطلاق لمسار وطني جديد، يكتبون فيه تاريخهم بأنفسهم، لا باسم أحد آخر.
Leave a Reply