(في حديث الموسيقى والقيود والمنفى والأمل) علي الزين لـ”ملف الهدف الثقافي::

صحيفة الهدف

أجراه: عبد الله رزق – يوسف الغوث

#ملف_الهدف_الثقافي

– الحرب على الثقافة والفن لم تبدأ الآن.. الفن محاصر منذ زمن والمثقفون في عزلة وإقصاء
– “ضربة حرة “تجربة أعتز بها.. في السودان كسرت الجمود والخوف وفي القاهرة أعادت للناس إحساسهم بتاريخهم
– الإنتاج الفني الحالي في السودان ضعيف ومعظمه أعمال فطيرة.. هناك حاجة لإعادة النظر في كثير من المفاهيم
– نحن نحتاج للفن كي يعيد إلينا ثقتنا بأنفسنا ويؤكد قيم السلام والعيش المشترك

في قلب الطالبية بالقاهرة، حيث تضج الأمكنة بالحركة والحياة وازدحام السكن، اختار الموسيقي علي الزين أن يكون مركزه هناك، مركزًا يختص بتدريس الموسيقى وتعليمها، ونشر الفنون وألوان الجمال.
في هذا الحوار الصريح والحافل بالتفاصيل مع “ملحق الهدف الثقافي”، فتح الأستاذ علي الزين قلبه للحديث عن رحلته الطويلة مع الفن منذ التحاقه بالمعهد العالي للموسيقى في الثمانينيات، مرورًا بتجربته في تأسيس مركز ثقافي عام 1997 تحت قيود النظام السابق، وصولًا إلى انتقاله القسري إلى القاهرة بعد اندلاع الحرب. تحدث الزين عن دور الموسيقى في مواجهة الانقسامات، كما كشف عن التحديات التي واجهته في الحفاظ على مشروعه الفني بعيدًا عن الوطن. ولم يتردد في تناول تشريح الواقع الثقافي والفني، مؤكدًا أن الفنان لا يوجَّه، بل يعكس ما يحس به، وأن الثقافة في السودان ظلت منذ عقود هدفًا لحرب ممنهجة عطلت دورها في بناء المجتمع.

في البداية، كيف تصف رحلتك الأولى مع الموسيقى واستمرارها وسط ظروف متغيرة؟
– أبدأ بتحاياي للجميع، ودعائي أن يعم السلام بلادنا. رحلتي مع الموسيقى بدأت منذ الثمانينيات، حين التحقت بالمعهد العالي للموسيقى في العام 1980. بعد تخرجي شاركت في مهرجان الثقافة الثالث مع مصطفى سيد أحمد، والطيب مدثر، والأمين عبد الغفار وغيرهم.
في تلك الفترة كان الجو معافى.. لا قيود أو محاذير. لكن بعد مجيء الإنقاذ، مُنعنا من الغناء بحجة أن الغناء يجب أن يكون للدولة والجهاد. فتوقفنا عن الغناء، وذهبنا إلى مصحة سجن كوبر للأمراض العقلية، وهناك استفدنا كثيرًا من التجربة.
ما الذي دفعك إلى تأسيس مركز ثقافي عام 1997 رغم القيود والإغلاقات المتكررة؟
– في ذلك الوقت لم تكن هناك أوراق رسمية، لأن الإنقاذ كانت تمنع كل مخالف لها، وتسعى إلى تقنين الفنون بما يتماشى مع سياستها. رغم ذلك عملنا حتى عام 2009، وتم تسجيل المركز قانونيًا في 2010. لكن في 2014 أُغلق المركز من قبل السلطات، ولم يسمح لنا بتجديده إلا بعد الثورة في 2019.
المعهد ساهم في تخريج أعداد كبيرة من العارفين والمغنين والمسرحيين والدراميين، وكثير منهم أصبحوا اليوم نجومًا في خارطة الفن السوداني. كنا قد خططنا لإقامة مهرجان بعنوان “هؤلاء مرّوا من هنا” قبل اندلاع الحرب، لكن الأحداث أجّلت الأمر. ولا أود أن أذكر أسماء بعينها، لكن مثلاً في العام 2014 كانت المنافسة في آلة العود محصورة بين طلاب معهد علي الزين وطلاب كلية الموسيقى حصريًا. وعلى سبيل المثال مرّ عبر بوابة المعهد عازف الكمان لؤي عبد العزيز، وأصوات المدينة، وأمجد شاكر وغيرهم.
نحن لا “نخلق” مبدعين وموسيقيين، بل نهيئ لهم الطقس المناسب الذي يساعد على الإبداع.
حدثنا عن نشأة المركز ولماذا انتقل إلى القاهرة، وهل تتفق أنه يقف عند منعطف تجسّد فيه انتقال الأجيال؟
– اختيار القاهرة لم يكن رفاهية بل ضرورة، لأنه لم تكن لدينا خيارات كثيرة. القاهرة تمتلك عوامل مساعدة مثل اللغة والدين، رغم اختلاف السلم الموسيقي. أما بخصوص الأجيال، فمن المعروف في السودان أن هناك صراع أجيال ناتجًا عن ضعف التربية المجتمعية، وهذا يخلق إشكالات في التواصل. وغالبًا ما لا نستفيد من بعضنا البعض. لكن في المركز أحرص على منح الشباب فرصة التعبير عن آرائهم، وفتح المجال أمامهم، وهو ما ساعد على خلق تواصل بين الأجيال.
عندما تنظر اليوم إلى تلك المرحلة، ما الأكثر حضورًا في ذاكرتك: التحديات أم الأمل؟
– بالنسبة لي لا فرق. كنت أتوقع في كل يوم أن يتم استدعائي من الأجهزة الأمنية، لذلك آثرت الابتعاد عن الإعلام.
كيف عايشت صدمة الحرب التي أجبرتك على مغادرة وطنك؟ وما أصعب لحظة واجهتها خلال انتقالك إلى القاهرة؟
– تفاجأت باستمرار الحرب، فقد كنت أظنها حالة عابرة. اتجهت شمالًا مع أسرتي، وسط ظروف صعبة أظهرت التباين الكبير في المجتمع السوداني خلال الحرب. واجهنا صعوبات كثيرة في الانتقال من مكان إلى آخر بسبب استغلال الانتهازيين لظروف الحرب. أذكر أن عملي السابق في مصحة كوبر جعلني أدرك أهمية الموسيقى ودورها الكبير في إرساء قيم مهمة في المجتمع.
تقول إن الموسيقى لغة عالمية تدعو إلى السلام. كيف تجسدت هذه الفكرة في تجربتك العملية؟
– إذا كانت الحروب تقوم نتيجة الاختلافات الثقافية والدينية، فليس هناك أفضل من الموسيقى لإيقاف الجراحات ومداواة الآخر.
حدثنا عن طبيعة الأنشطة التي يقدمها المركز وكيف يستفيد منها الشباب والمجتمع؟
– النشاط الأبرز هو برنامج “ضربة حرة”، في السودان كان الهدف منه كسر الجمود والخوف، أما في القاهرة فكان الهدف أن نعمل كجماعة نستحضر تاريخها ونحس به. التمويل ظل على الدوام يشكل مشكلة كبيرة؛ لم أتلقَّ أي دعم لا في السودان ولا في القاهرة. البرنامج مفتوح للجميع بلا تذاكر، فهو قائم بذاته. عند قدومي للقاهرة واجهت مواقف مؤلمة، منها أنني اضطررت لتغيير نظارتي الطبية دون مقابل، وهو ما أحزنني كثيرًا، لأن في بلادي كل شيء يُدفع ثمنه دون مراعاة لقيمة الفنان. ومع ذلك يظل المرء فاقدًا لبلاده ولبلدته.
ما الذي فقدته خارج السودان، وما الذي كسبته؟
– فقدت السودان كله: تفاصيله، أمراضه، ونمط حياته. أما المكاسب فهي قليلة، الغربة ليست تعويضًا.
ما الدور الذي يلعبه الفنانون اليوم؟
– للأسف لا يوجد إنتاج حقيقي، وما يُطرح ضعيف جدًا. الفنان لا يوجه.. الفنان ينتج ما يحس به. الغناء وعاء واسع جدًا، أكبر من أي توجه سياسي أو حزبي.
كثير من الظواهر والمظاهر التي اعترت مسيرة الفن مؤخرًا، هل هي دلالة على انحطاط الفن؟
– هذه الظواهر نتاج طبيعي لواقعنا. هي ظاهرة اجتماعية تعكس خلل المنظومة الغنائية كلها. يمكن القول إنها الوجه الآخر لمجتمع مأزوم. لوقت طويل كان إعلامنا طاردًا، يبث محتوى بعيدًا عن الثقافة، فصرنا غير مسموعين. ومع ذلك، هناك أصوات شابة الآن تشق طريقها وتؤكد أن ثقافتنا ما زالت ذات جينات قوية.انتشار ظاهرة أشباه المغنين مرتبط بانتقال المال من أيادٍ واعية في الماضي، إلى رأسمالية غير مدركة اليوم. في السابق، في حفلات الزواج، كنا نجد فنان العريس مثل كابلي أو عثمان حسين، لأن المال كان عند من يقدّر الفن. أما اليوم فقد تغيرت المعايير، فانتشرت مثب هذه الظواهر التي لا تمت للفن بصلة.
ما تأثير الحرب على الساحة الثقافية؟
– في الحقيقة لا توجد ثقافة في ذهن الدولة عندنا. على العكس، الدولة حاربت الثقافة، الحرب لم تبدأ الآن، بل كانت هناك حرب على الثقافة منذ العهد البائد. كثير من المراكز أُغلقت، مثل مركز الخاتم عدلان ومركز محمود محمد طه. الثقافة ظلت محاصرة، والمثقفون بين عزلة وإقصاء.
هل أنت راضٍ عن موقف المثقفين وأهل الموسيقى في مواجهة الحرب؟
من الصعب أن تحكم اليوم على المشهد الثقافي في ظل هذه الظروف، والمثقفون لا يزالون يقاومون ويصارعون من أجل إيقافها، لكن الأكيد أن الفنون ستظل تجد طريقها مهما اشتد الظلام.
في الختام..
يقول علي الزين: الفنان لا يمكن أن يُوجّه. الفنان وعاء واسع، وأكبر من فكرة الانتماء الأيديولوجي. إذا أردنا أن تكون للفنون رسالة حقيقية ومشروع دولة، فعلينا أن نسمح للفنان أن يحس، وأن يعكس إحساسه بصدق”.
هكذا بدأ علي الزين في حديثه.. رجل يحمل ذاكرة مثقلة بالتجارب، لكنه لا يتخلى عن قناعته بأن الموسيقى قادرة على أن تبني ما تهدمه السياسة والحروب. في الطالبية، وسط القاهرة الصاخبة، يواصل رسالته بصمت وإصرار، مؤمنًا أن الفنون ليست ترفًا، بل ملاذًا وضرورة.

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.