
ملف_الهدف_الثقافي
لم تكن المق.اومة الفلس.طينية يومًا مقتصرة على مساحات الرص.اص والص.واريخ فحسب، بل هي مشروع وجودي يتجسد أولاً في الوعي والسرد والذاكرة قبل أن يظهر على خريطة المواجهة الميدانية. الكلمة والقلم والشعر ليست رفاهية ثقافية أو ترفًا فنيًا في زمن الاحتلال، بل هي أدوات تصحيحية للواقع وعتاد مقاوم يعيد للإنسان مكانته ويعيد للتاريخ بوصلة العدالة. في غ.زة وفي كل مكان فلسطيني، تتحول اللغة إلى فضاء حر يقاوم محاولات المحو، وتصبح القصيدة والتحقيق والتوثيق مظاهر من مظاهر الدفاع عن الوجود، لا مجرد تسجيل للألم.
السيطرة على السرد هي سيطرة على معنى الحياة نفسها، فمن يملك الرواية يملك طريقة فهم الحدث وتفسيره، ومن يملك التوثيق يملك ذاكرة الجيل المقبل. لذلك لم يكن سقوط أسطورة “أرض بلا شعب” مجرد فشل خطاب تاريخي، بل هو انهيار أخلاقي وسياسي نجح فيه الفلسطينيون، بوسائل بسيطة في كثير من الأحيان — كاميرا هاتف، شهادة مباشرة، شجرة زيتون باقية — في فضح آلة دعاية منظمة. هذا الانهيار ليس مجرد نصر تقني، بل هو هزيمة لمشروع استند إلى تصورات زائفة عن الوجود والشرعية.
الأدب والفن والموسيقى والتطريز الشعبي والتقاليد المتوارثة لم تعد ترفًا ثقافيًا بل أدوات بقاء. قصيدة محمود درويش وصوت غسان كنفاني لم يكونا مجرد تعابير جمالية، بل آليات لإشباع الحاجة الوجودية للناس لأن يُسمعوا ويُعترف بوجودهم. تحولت الرواية إلى أرشيف حيّ، والشعر إلى درع معنوي يواجه محاولات تجريد الفلسطيني من إنسانيته. في المخيمات والأنقاض، صارت خياطة الكوفية أو نقشة التطريز جغرافية للذاكرة ومخططًا للقرى المهجرة، وأصبح المسرح الشعبي والأغنية الشعبية منصات لإعادة تشكيل الوعي الجماعي.
تعمل الثقافة هنا على مستويين متوازيين: الأول دفاعي، يصد محاولات النسيان والمحو، والثاني هجومي، يطرح بدائل معرفية وأخلاقية للروايات السائدة. العمل الثقافي المنظم يخلق نتاجًا يقلب المعادلات، فترجمة الرواية الفلسطينية إلى لغات أخرى، ونشر الشهادات والتحقيقات الميدانية، وتأسيس فضاءات إعلامية بديلة، كل ذلك يزيد من قدرة القضية على الوصول إلى ضمائر بعيدة ويحولها من قضية محلية إلى قضية معيارية تُختبر بها منظومة القيم العالمية.
دور المثقف والفنان في هذا السياق لا يقتصر على التعبير الفردي، بل يمتد إلى مسؤولية تاريخية وأخلاقية تستدعي التعبير والتوثيق والمواجهة. الحياد يصبح تواطؤًا حين تُسلب حياة المدنيين أو حين تُمحى ذاكرة شعب بأكمله. ولذلك على المثقفين أن يتحولوا إلى ضباط ثقافيين في جبهات الوعي: يكتبون، يوثقون، يترجمون، وينتجون أعمالًا فنية تضع الحقائق في المشهد العام. الدعم المؤسساتي للفنانين والكتاب الفلسطينيين، ومنحهم منصات حقيقية للوصول إلى القراء والمشاهدين، ليس كرمًا بل استثمارًا استراتيجيًا في مقاومة معرفية طويلة الأمد.
في العمل اليومي، يجب أن تتنشط مبادرات توثيقية متخصصة تستهدف تسجيل الشهادات، وجمع الصور، وحفظ القصص الشفهية، وتصميم قواعد بيانات مفتوحة تطوعيًا تُعلم الأجيال القادمة أن ما وقع لم يكن حادثًا منعزلًا بل جزءًا من تجربة تاريخية تستوجب فهمها وتعلّم دروسها. كما أن العمل على إدماج الأدب الفلسطيني في مناهج المدارس العربية وترجمته إلى لغات عالمية يمثل وسيلة لإسقاط هذه التجربة في وعي الجمهور العالمي بعيدًا عن منصات الدعاية.
المقاطعة الثقافية للفكر والإنتاج الذي يشرعن الاحتلال هي أداة أخرى مهمة. فإضعاف الشرعية الثقافية للمشروعات التي تبرر أو تشرعن الاعتداء يسهم في تقويض بنيتها المعنوية، بينما بناء بدائل ثقافية احترافية يضع الرواية الفلسطينية في مكانها الطبيعي كحكاية إنسانية عامة. وفي هذا الإطار، الإعلام البديل والتدريب على مهارات الاتصال ووسائل التأثير الرقمي لدى الشباب الفلسطينيين يُعدّان استثمارًا في قواعد القوة الناعمة.
لكن في النهاية، لا ينبغي أن ننسى أن الكلمة والقلم لا يستبدلان العمل المادي على الأرض؛ بل يكملانه. المقاومة الثقافية تُرهِق آلة الدعاية وتُحرج المنظومات التي تبرر العنف، وتخلق بيئة أخلاقية وسياسية تسمح للجهود السياسية والإنسانية بالمناورة وإيجاد مواقف دولية تضغط لإنهاء المعاناة. لذلك لا بد من رؤية متكاملة: توثيق، إبداع، تعليم، إنتاج إعلامي محترف، وممارسات دبلوماسية ثقافية، كلها تعمل معًا لتقويض منطق الاحتلال وإعادة بناء صورة فلسطينية تؤكد حق الإنسان في البقاء والكرامة.
غ.زة لم تعد مجرد ساحة دمار، بل أصبحت مدرسة للثقافة المقاومة وورشة لصياغة الذاكرة. لنكن جيشًا من الأقلام قبل أن نكون جيشًا من الأجساد؛ لنغزُ القضايا بالكلمة المعقودة والمنطق الحاد، ولنصنع من الثقافة حصنًا يقاوم محاولات الطمس، لأن الرصاصة قد تقتل جسدًا، أما الكلمة فتعيد كتابة التاريخ من جديد. نسأل الله النصر لأهلنا في فلسطين، وأن يجعل كلمتنا سلاحًا للحق لا أداة لثأر ولا دعوة للعنف، بل منارة للإنسانية والحرية.
Leave a Reply