
د.امتثال بشير
#ملف_الهدف_الثقافي
“لا تحسبن العز ملكًا، فإنه بالناس يُبنى، وبالأخلاق يُؤتمن”
المتنبي
في مشهد بات يتكرر كثيرًا في الحفلات والمناسبات العامة، حتى أصبح ظاهرة تستفز القاصي والداني من أصحاب العقول والقيم والمبادئ والوطنية الحقة، يتم نثر الأوراق النقدية تحت أقدام “القونات” وسط تصفيق وإعجاب وضحكات الحضور، وكأن المال فقد معناه، ورمزيته الوطنية أُفرغت من قيمتها. إنها ظاهرة “النقطة”، التي تحولت من عادة اجتماعية في بعض المجتمعات إلى سلوك مستفز ومقيت، يقلق كل سوداني شريف، يرى في العملة الوطنية أكثر من مجرد ورقة تُصرف، بل رمزًا لسيادة الدولة وكرامة مواطنيها.
فالظاهرة لها أصل ضارب في القدم، لكن المستجد هو التحول في محتواها. نشأت عادة “النقطة” كتعبير عن الإعجاب بالفن أو تشجيع الفنانة أو المغنية، لكنها انزلقت تدريجيًا إلى ما يشبه المباهاة المادية الفارغة المحتوى والمضمون، والمنافسة في “الرش” و”التنقيط”، حتى أصبحت أشبه بطقس استعراضي تُراق فيه الأموال بلا وعي، وتُداس تحت الأقدام بلا أدنى درجة من درجات الاحترام.
ما بدأ كـ”إكرامية” فنية، تحول إلى مشهد مزعج ومهين للقيم ومثير للغضب، خاصة في ظل أزمات اقتصادية طاحنة يعيشها المواطن السوداني، حيث لا يجد البعض ما يسد به رمقه، بينما تُنثر العملات في الحفلات وعلى رؤوس القونات، وكأنها بلا قيمة.
العملة ليست مجرد ورقة، من المؤسف أن تُعامل العملة الوطنية، التي تحمل صور الأبطال والمعالم والتاريخ، بهذا الشكل المشين، كما أنها ليست مجرد وسيلة تبادل، بل رمزًا لسيادة الدولة واستقرارها الاقتصادي، ووجهًا من وجوه احترام الذات الوطنية.
رمي العملة على الأرض والدوس عليها بالأحذية والأقدام؛ ابتذال وإهانة مباشرة لكل مواطن، وللمؤسسات التي صنعتها وعملت على تقنين تداولها. هي صفعة في وجه الكادحين الذين يتعبون لجمع كل جنيه، بينما يهدر البعض أموالهم لإرضاء الأنا الزائفة أو لإثبات جاهٍ زائل. تكشف الظاهرة عن اختلال في المنظومة الاجتماعية والنفسية والقيمية، حيث تحول المال إلى وسيلة “لاستعراض” ممن يسمون بالرأسمالية الطفيلية، التي تسعى للتمايز الطبقي، بدلًا من أن يكون أداة للبناء والدعم.
“النقطة” تخلق بيئة تشجع على الاستهلاك المفرط، وتؤسس لتفاوتات طبقية حادة، ومشاعر احتقار أو دونية في نفوس بعض الفئات. كما تسهم في ترسيخ صورة نمطية سلبية عن المرأة، عندما تختزل “القونة” في جسد يُشترى ويُكافأ بالمال، لا في فن يُحترم ويُقدّر.
بالضرورة ولا بد من وقفة مجتمعية وتشريعية لمواجهة الظاهرة، لا بد من تحرك على مستوى التوعية المجتمعية، من خلال حملات إعلامية وتثقيفية تشرح خطورة تلك الممارسات على الهوية الوطنية والاقتصاد المحلي، وتعيد الاعتبار لقيمة العملة كمكوّن من مكونات السيادة الوطنية. ولا بد من إخضاع الظاهرة لتنظيم قانوني؛ ومهمة السلطات أن تضع ضوابط واضحة تمنع إهانة العملة الوطنية، كما هو الحال في كثير من دول العالم، حيث تُجرّم مثل هذه الأفعال، وتُعامل على أنها إساءة لرمز من رموز السيادة الوطنية.
ختامًا.. “النقطة” لم تعد مجرد فعل عابر في لحظة طرب، بل سلوك يحمل في طياته دلالات اجتماعية واقتصادية وثقافية عميقة. والسكوت عنها يعني القبول بتشويه الرموز، وإفراغ القيم من مضامينها. فلنحترم عملتنا، فهي ليست ورقة، بل شرف وطن؛ ولن نتحدث عن شرف أو كرامة تلك التي تطلب وتحرض وتستدعي الجهلاء بالاسم أو القبيلة أو حتى المهنة، في استجداء واضح وصريح ومذل، ينم عن عدم استحياء مباشر لمنحها النقطة! ومن تُهن، يسهل الهوان عليها. وكل ما يدخل ضمن دائرة السحت، فالنار أولى به.
كسرة أخيرة:
نداء عاجل لكل دول اللجوء: أن تتخذ ما تراه مناسبًا من إجراءات قانونية مشددة تجاه كل من يمارسون هذه العادة المبتذلة البغيضة، دون أدنى مراعاة لحرمة المال كنعمة يجب أن تُحترم.
Leave a Reply