بورترية// إيزابيلا حمّاد: الروائية التي جعلت فلسطين لغة عالمية

صحيفة الهدف

مجدي علي
#ملف_الهدف_الثقافي


حين يذكر اسم إيزابيلا حمّاد، لا يعود الحديث مجرد إشادة بموهبة أدبية شابة، بل إشارة إلى ظاهرة ثقافية وإنسانية تتجاوز حدود الرواية إلى ما هو أبعد: حضور فلسطين في الأدب العالمي بلغة جديدة، وصوت مغاير، وحساسية عالية تتقاطع فيها السرديات الشخصية مع الذاكرة الجمعية.
ولدت حمّاد في بريطانيا، لأسرة فلسطينية حافظت على جذورها في المنفى، فشبّت وهي تتأرجح بين لغتين وثقافتين وسرديتين. هذه الازدواجية لم تكن صراعًا فحسب، بل مصدر ثراء إبداعي. إذ سرعان ما أدركت أن الكتابة بالنسبة لها لن تكون مجرد حكاية شخصية، بل محاولة لتجسير الهوة بين عالمين، وإعادة تعريف الذات الفلسطينية أمام نفسها وأمام الآخر.
في العام 2019، أصدرت روايتها الأولى “الباريسي”، التي عادت بالقارئ إلى بدايات القرن العشرين، حيث تتشابك مسيرة شاب فلسطيني مع خيوط التاريخ المأزوم للاستعمار الأوروبي. الرواية التي ترجمها “دار التنوير” إلى العربية لاقت رواجًا كبيرًا، ونالت جائزة كتاب فلسطين، إضافة إلى جائزة Sue Kaufman من الأكاديمية الأميركية للفنون والآداب. النقاد رأوا فيها عملًا روائيًا “يضع فلسطين على خريطة الرواية التاريخية العالمية”، ويعيد للأدب دوره في صياغة الذاكرة الوطنية.
بعد أربع سنوات، قدّمت حمّاد عملها الثاني “ادخل أيها الشبح” (2023) ، الذي يُعتبر نقلة نوعية في تجربتها. الرواية تروي حكاية “سونيا ناصر”، ممثلة فلسطينية بريطانية تعود إلى فلسطين، لتجد نفسها عالقة بين شظايا الماضي وأشباح الحاضر، وبين الهزيمة الشخصية والهزيمة الوطنية.
الرواية ليست مجرد حكاية عاطفية أو عائلية، بل سيرة رمزية لفلسطين اليوم: الاستجوابات في المطارات، الاحتلال اليومي، الانقسامات الداخلية، ومع ذلك، قدرة الفن على مقاومة الانكسار. نالت الرواية جائزة Aspen Words الأدبية (2024)، اعترافًا بقوة الأدب في طرح القضايا الكبرى، وتأكيدًا على أن فلسطين لم تعد هامشًا في السرد الغربي، بل جزءًا من مركز النقاش الأدبي والإنساني.
ما يلفت في مسيرة حمّاد هو سرعة صعودها في فضاء الأدب العالمي، لم يأتِ هذا الاعتراف العالمي سريعًا فحسب، بل متواصلًا أيضًا. فخلال أقل من عقد، حازت حمّاد على خمس جوائز أدبية مرموقة : جائزة بليمبتون (2018)عن قصتها “السيد كنعان” التي منحتها مجلة باريس ريفيو، جائزة كتاب فلسطين (2019)، جائزة Sue Kaufman (2020)، جائزة Aspen Words الأدبية (2024)، جائزة بيتي تراسك من جمعية المؤلفين في بريطانيا. وبالإضافة إلى الجوائز، اختارتها مجلة Granta عام 2023 ضمن قائمة “أفضل 20 كاتبًا بريطانيًا شابًا”، لتكون أول فلسطينية تدخل هذا التصنيف المرموق.
لا تكتفي حمّاد بالكتابة من برج عاجي، بل تحمل موقفًا سياسيًا واضحًا. فهي ترى في الحرب على غزة “إبادة جماعية”، وتستند إلى شهادات أكاديمية إسرائيلية لتدعيم ذلك، ما يجعلها صوتًا مثيرًا للجدل في الإعلام الغربي. لكنها تدرك أيضًا أن الأدب، بما يمتلكه من رمزية، قد يكون أكثر تأثيرًا من أي خطاب مباشر، لأنه يزرع الحقيقة في الوجدان.
ما يميز أعمال حمّاد أنها لا تنغلق على فلسطين بوصفها موضوعًا قوميًا ضيقًا، بل تقدّمها كقضية إنسانية عالمية. فبطلاتها وأبطالها يعيشون تناقضات المنفى، قلق الهوية، هشاشة العلاقات، تمامًا كما يعيش أي إنسان في زمن مضطرب. وهذا ما يجعل القارئ الغربي يرى في الفلسطيني مرآة له، لا مجرد “آخر بعيد”.
بورتريه حمّاد لا يكتمل إلا بالحديث عن طريقتها في تحويل الفن إلى شكل من أشكال المقاومة. في رواية “ادخل أيها الشبح”، يصبح المسرح أداة مواجهة: الممثلون الفلسطينيون يتحدّون الاحتلال عبر إعادة صياغة “هاملت”، وتحويله إلى نصّ فلسطيني بامتياز. الفن هنا ليس هروبًا، بل حضورًا، وهوية، وصرخة.
رغم أنها لم تتجاوز منتصف الثلاثينيات من عمرها، فقد وضعت إيزابيلا حمّاد نفسها في قلب الخريطة الأدبية العالمية. هي اليوم روائية فلسطينية بريطانية، لكن الأهم أنها كاتبة إنسانية بامتياز، تكتب عن الحب والفقد والمنفى، لكن دائمًا من نافذة فلسطين. فيها يلتقي الأدب مع السياسة، وتلتقي السيرة الشخصية مع الذاكرة الجماعية، وتصبح الرواية فعلًا من أفعال الوجود والمقاومة في آن.
إيزابيلا حمّاد، ببساطة، هي الكاتبة التي جعلت فلسطين لغة عالمية، وصوتًا أدبيًا لا يمكن للعالم تجاهله بعد اليوم.

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.