
طارق عبد اللطيف أبو عكرمة
#ملف_الهدف_الثقافي
لم تعد القضية الفلس.طينية مجرد شأن إقليمي محدود، ولا مجرد ملف سياسي يتداول في أروقة المؤتمرات، بل تحولت إلى اختبار كوني لجوهر الإنسانية ومعيار أخلاقي يحاكم صدقية الحضارة الحديثة. العربي الفلس.طيني الذي أُريد له لعقود أن يكون إما (ضحية) صامتة أو (إره.ابيًا) متم.ردًا، صار اليوم رمزًا للكرامة الإنسانية في مواجهة آلة إب.ادة عارية من كل شرعية، آلة تستعيد أبشع ممارسات التاريخ منذ النازية وحتى أشكال الاستع.مار الأكثر دموية.
لقد انهارت الرواية الصه.يونية على وقع الصورة المباشرة والوثيقة الحية. أسطورة (أرض بلا شعب لشعب بلا أرض) لم تسقط بفعل كتب التاريخ وحدها، بل انكسرت أمام عدسة هاتف محمول التقطت الحقيقة لحظة بلحظة: أطفال تحت الأنقاض، أمهات يبحثن عن أبنائهن، وأحياء تتحول إلى رماد. الخطاب الذي كان يُسوّق الحرب باعتبارها (صراعًا معقدًا) تبدل إلى حقيقة عارية: ح.رب إب.ادة موصوفة. حتى أكثر المصطلحات تضليلًا مثل (حق الدفاع عن النفس) غدت غطاءً شاحبًا لشر مطلق لم يعد ممكنًا إخفاؤه. ومن هنا، تحولت فلس.طين العربية إلى مرآة تُعكس فيها أخلاقيات الشعوب: الموقف منها لم يعد تعبيرًا عن وجهة نظر سياسية، بل تحديدًا لموقع الإنسان بين الخير والشر.
الصحوة لم تكن عربية فحسب، بل عالمية، تقودها طلائع طلابية وجماهيرية في قلب الجامعات الغربية، حيث تفجرت حركات المقاطعة والاعتصامات رفضًا للتواطؤ الأكاديمي والثقافي مع الاحت.لال. منصات التواصل، التي بدت يومًا أدوات ترفيه، صارت ساحات معركة معرفية. هناك، هزم الفلس.طيني بكاميرا هاتف آلة دعاية صه.يونية أنفقت عليها مليارات. التحالفات الجديدة بدت أكثر إدهاشًا: يهود ضد الصه.يونية، مسيحيون يرفضون التفسيرات التوراتية المضللة، ليبراليون يعترفون بتناقض خطاب الحرية الذي يساند الاح.تلال في الوقت نفسه.
لكن البعد الأعمق يتجاوز السياسة إلى الفلسفة. الصه.يونية لم تكن سوى الابن غير الشرعي للاستع.مار الغربي، امتدادًا لمعسكرات الاعت.قال في شكل جديد. أوروبا التي أنجبت النازية هي نفسها التي أسست للمشروع الاستي.طاني في فلس.طين. هنا يصبح الاح.تلال مرضًا حضاريًا يهدد ليس الفلس.طينيين وحدهم، بل معنى الإنسانية ذاته. في المقابل، المق.اومة لم تعد مجرد تكتيك للتحرير، بل أصبحت تعبيرًا عن شرط الوجود ذاته: (أنا أقاوم إذن أنا موجود). إنها لحظة تضع الفلس.طيني في قلب المعركة الكونية بين إرادة الحياة وآلة الموت.
ويأتي دور المثقف والفنان ليكشف عمق التحول. لم يعد الصمت موقفًا محايدًا، بل صار تواطؤًا. ولم يعد الحياد ممكنًا، لأن معركة الإبادة لا تسمح بمناطق رمادية. فنانون عالميون خاطروا بمسيرتهم تضامنًا مع فلسطين، مثقفون رفضوا التمويل الملوث بالدعاية الصهيونية، والإبداع تحول إلى أرشيف مق.اومة: الأفلام واللوحات والأغاني باتت تسجل لا مجرد المأساة بل بطولة الصمود. لم تعد الرواية الفلس.طينية رواية الضحية فقط، بل صارت رواية الفعل والإصرار، رواية من يكتب التاريخ لا من يُكتب عنه.
أما المستقبل فيحمل أسئلة مصيرية: ليس (هل سينتهي الاحتلال؟) بل (متى وكيف؟). الشرعية الأخلاقية للكيان الصهيوني تتهاوى بسرعة، لا أمام الشعب العربي وحده، بل أمام ضمير العالم. والسؤال التالي: كيف سيبدو العالم ما بعد التحرير؟ هل تكون هناك دولة ديمقراطية واحدة تسع الجميع على قاعدة المواطنة؟ هل يقدم الفلس.طيني درسًا للعالم في المصالحة لا الانتقام، في إعادة بناء وطن لا على أنقاض الآخر بل على إمكان العيش المشترك؟
الفلس.طيني اليوم لا يقدم دروسًا في الصمود فقط، بل في معنى أن تكون إنسانًا. يعلمنا كيف تبقى الرأس مرفوعة رغم الركام، وكيف تُزرع زيتونة بين الأنقاض، وكيف يقاوم الجسد الأعزل أقوى آلة حرب في المنطقة. لم تعد غزة مجرد بقعة جغرافية، بل صارت مرآة تكشف أخلاقيات العالم: من يقف مع الجلاد فقد إنسانيته، ومن يقف مع الضحية فقد استعادها.
إن القضية الفلس.طينية لم تعد (قضية الفلسزطينيين)، بل صارت قضية العالم بأسره، قضية من يريد أن يبقى إنسانًا في وجه نظام عالمي يكشف عن ازدواجيته بأبشع صورة. من هنا، تصبح فلسطين هي المعيار، والفلس.طيني هو المعلّم، والاح.تلال هو المعادل الموضوعي للشر المطلق الذي على البشرية أن تواجهه لتبقى إنسانيتها ممكنة
Leave a Reply