هل تنجح الدولة التنموية في إنقاذ السودان وجنوب السودان من دوامة الأزمات؟

صحيفة الهدف

زكريا نمر
#ملف_الهدف_الاقتصادي
في العقود الأخيرة برز مفهوم الدولة التنموية باعتباره أحد أهم النماذج الاقتصادية والسياسية القادرة على إخراج الدول النامية من مأزق التخلف والفقر. ويكتسب هذا المفهوم أهمية خاصة في السودان وجنوب السودان، حيث يتقاطع التاريخ الاستعماري مع النزاعات الداخلية والاعتماد الريعي على الموارد الطبيعية، مما جعلهما عرضة للتقلبات الاقتصادية والسياسية. لكن يبقى السؤال مطروحاً: هل يمكن أن يشكل نموذج الدولة التنموية مساراً عملياً لهذين البلدين؟ وما هي الدروس المستفادة من تجارب دول أخرى طبّقت هذا النموذج؟
ظهر هذا المفهوم بوضوح في ستينيات وسبعينيات القرن العشرين مع دراسة تجارب اليابان وكوريا الجنوبية وتايوان، حيث لعبت الدولة دوراً محورياً في توجيه التنمية عبر التخطيط المركزي المرن الذي يحدد أولويات اقتصادية طويلة المدى، والتصنيع الموجّه للتصدير، والتحالف بين الدولة والقطاع الخاص لضمان الإنتاجية لا الريعية، وحماية الصناعات الناشئة مع الانفتاح التدريجي على المنافسة العالمية. وقد أكد باحثون مثل تشالمرز جونسون وبيتر إيفانز أن نجاح الدولة التنموية مرهون بوجود بيروقراطية قوية ومستقلة نسبياً وقيادة سياسية ملتزمة لا تخضع بالكامل لضغوط النخب التقليدية.
في السودان تعكس الصورة ملامح أزمة مركبة. فالواقع السياسي يتسم بالانقلابات المتكررة وغياب الاستقرار وضعف الحكم المدني، أما الاقتصاد فيعتمد على الذهب والزراعة التقليدية مع ضعف كبير في القيمة المضافة الصناعية. كما يعاني المجتمع من تفاوتات جهوية وإثنية ومركزية خانقة أدت إلى تمردات في الأقاليم. ومع ذلك يمتلك السودان فرصاً استثنائية بفضل موقعه الاستراتيجي في قلب إفريقيا وأراضيه الزراعية الشاسعة التي يمكن أن تجعله بالفعل سلة غذاء للمنطقة.
أما جنوب السودان فمشكلاته أكثر حدة. فمنذ الاستقلال في 2011 يعيش حالة حرب أهلية شبه دائمة مع هشاشة مؤسسات الدولة واعتماد شبه كامل على النفط الذي يمثل أكثر من 90 في المئة من عائدات الحكومة. والمجتمع هناك يعاني من انقسامات قبلية حادة وضعف في الهوية الوطنية الجامعة. ومع ذلك فهو يملك موارد طبيعية ضخمة من النفط والأراضي الزراعية والمياه، إضافة إلى كثافة سكانية منخفضة تسمح باستيعاب مشاريع تنموية كبرى.
لكي يطبق السودان نموذج الدولة التنموية يحتاج إلى إصلاح زراعي شامل يعيد الحيوية لمشروع الجزيرة ويربطه بالتصنيع الزراعي، وإلى سياسة تصنيع موجّه للتصدير تستفيد من الذهب والموارد المعدنية، وإلى بناء بيروقراطية تنموية فعالة عبر إصلاح الخدمة المدنية وتحقيق استقلاليتها عن المحاصصة الحزبية، إضافة إلى لامركزية تنموية تمنح الأقاليم صلاحيات اقتصادية أوسع تخفف من الاحتقان السياسي، مع الاستفادة من موقع السودان كبوابة تجارية بين إفريقيا والشرق الأوسط.
جنوب السودان فيحتاج إلى تنويع اقتصاده عبر الاستثمار في الزراعة والثروة الحيوانية والتعدين لتقليل الاعتماد على النفط، وإلى بناء البنية التحتية الأساسية من طرق وكهرباء ومياه كشرط مسبق لأي تنمية. كما يحتاج إلى مؤسسات قوية قادرة على فرض القانون، وإلى برامج مصالحة وطنية تخلق هوية جامعة، إضافة إلى جذب الاستثمارات الخارجية عبر توفير بيئة آمنة وشفافة.
وتبرز أمام السودانيين تجارب دولية ملهمة يمكن الاستفادة منها. فكوريا الجنوبية انتقلت من دولة فقيرة بعد الحرب الكورية إلى قوة اقتصادية عبر سياسة التصنيع الموجّه للتصدير مع استثمار كبير في التعليم والبحث العلمي. وسنغافورة اعتمدت على التخطيط المركزي ومكافحة الفساد وجذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة. وإثيوبيا، رغم التوترات السياسية، نجحت في تحقيق معدلات نمو مرتفعة عبر استثمار ضخم في البنية التحتية والطاقة الكهرومائية. أما رواندا فقد بنت نموذجاً فريداً يعتمد على المصالحة الوطنية ومؤسسات قوية ورؤية استراتيجية طويلة المدى جعلتها مركزاً صاعداً للخدمات والتقنية في إفريقيا.
هذه النماذج تؤكد أن الشرط الأساسي هو وجود قيادة سياسية مؤمنة بالتنمية ومجتمع قادر على التماسك حول مشروع وطني جامع. وبالنسبة للسودان وجنوب السودان يمكن تصور ثلاثة سيناريوهات مستقبلية:
الأول هو الاستمرار في الوضع الراهن، مما يعني تفاقم الأزمات وبقاء الاقتصاد رهينة الموارد الخام.
والثاني هو سيناريو الدولة الريعية، حيث يستمر الاعتماد على النفط والذهب مع ضعف الاستثمار في القطاعات الإنتاجية، مما يجعل الاقتصاد هشاً.
أما السيناريو الثالث وهو المأمول، فيتمثل في بناء دولة تنموية حقيقية عبر مؤسسات قوية وتوجيه الموارد إلى الزراعة والصناعة وخلق فرص عمل والانفتاح التدريجي على الاقتصاد الإقليمي والعالمي.
إن الدولة التنموية ليست مجرد وصفة جاهزة، بل مشروع وطني شامل يحتاج إلى قيادة سياسية ملتزمة ومؤسسات قوية ورؤية استراتيجية تمتد لعقود. وبالنسبة للسودان وجنوب السودان فإن تبني هذا النموذج قد يكون السبيل الوحيد للخروج من دائرة الصراعات والاعتماد الريعي على الموارد، والدخول في مرحلة جديدة من السلام والتنمية والاندماج الإقليمي. وتجارب آسيا وإفريقيا تثبت أن التحول ممكن حتى في ظل تحديات هائلة، شرط أن تتوفر الإرادة السياسية والرؤية الاستراتيجية، وأن يتحول المواطن من مجرد متلقٍ للمساعدات إلى فاعل رئيسي في مشروع التنمية.

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.