الاقتصاد الأخضر والتغير المناخي: استراتيجيات التكيف والتخفيف

صحيفة الهدف

طارق عبد اللطيف أبو عكرمة
#ملف_الهدف_الاقتصادي
مقدمة:
يواجه العالم تحديًا وجوديًا يتمثل في التغير المناخي، الذي أصبح تهديدًا واضحًا للأنظمة الاقتصادية والبيئية على حد سواء. في هذا السياق، يبرز (الاقتصاد الأخضر) ليس كخيار بديل فحسب، بل كاستراتيجية ضرورية للتكيف مع الآثار الحالية والمستقبلية للتغير المناخي، والتخفيف من حدتها. يعتمد هذا النموذج الاقتصادي على تعزيز الكفاءة في استخدام الموارد، والحد من انبعاثات الكربون، وبناء أنظمة إنتاجية مستدامة تلبي احتياجات الحاضر دون المساس بقدرة الأجيال القادمة على تلبية احتياجاتها. وتزداد خطورة هذه التحديات في الوطن العربي، حيث تواجه الأقطار مزيجًا من ندرة المياه، والتصحر، واعتمادًا مفرطًا على الوقود الأحفوري.
1/ التكيف مع آثار التغير المناخي من خلال الاقتصاد الأخضر:
يتطلب التكيف مع التغير المناخي بناء اقتصادات مرنة قادرة على مواجهة الصدمات المناخية مثل الفيضانات وموجات الجفاف وارتفاع منسوب مياه البحر. يمكن تحقيق ذلك من خلال:
تحول قطاع الزراعة: تبني نظم الزراعة الذكية مناخيًا التي تعتمد على تقنيات ترشيد استخدام المياه، وتطوير محاصيل مقاومة للجفاف والملوحة، مما يضمن الأمن الغذائي في ظل الظروف المناخية المتغيرة.
تعزيز البنية التحتية الخضراء: بناء مدن ذكية تتضمن إنشاء أنظمة صرف صحي متطورة، واستخدام مواد بناء صديقة للبيئة، وتصميم مساحات خضراء تمتص الكربون وتقلل تأثير (الجزر الحرارية) في المناطق الحضرية.
حماية النظم البيئية:الحفاظ على النظم البيئية الطبيعية مثل الغابات والأراضي الرطبة والشعاب المرجانية، والتي تعمل كحواجز طبيعية ضد الكوارث المناخية وتدعم التنوع البيولوجي.
٢/ استراتيجيات التخفيف من خلال الابتكار الأخضر:
يهدف التخفيف إلى معالجة الأسباب الجذرية للتغير المناخي، ابتداءً عن طريق خفض انبعاثات غازات الدفيئة، حيث تلعب الابتكارات الخضراء دورًا محوريًا هنا:
التحول نحو الطاقة المتجددة: الاستثمار في طاقة الرياح والطاقة الشمسية والهيدروجين الأخضر، حيث تشير تقارير الـ IPCC إلى أن الطاقة المتجددة يمكن أن توفر ما يصل إلى (86%) من الكهرباء العالمية بحلول 2050 إذا ما تم تطبيق السياسات الداعمة.
النقل المستدام: التوسع في استخدام المركبات الكهربائية، وتطوير شبكات النقل العام المعتمدة على الطاقة النظيفة، والتي تساهم بشكل كبير في خفض انبعاثات قطاع النقل، أحد أكبر القطاعات المساهمة في الانبعاثات عالميًا.
الاقتصاد الدائري: اعتماد نماذج إنتاجية تعتمد على إعادة الاستخدام وإعادة التدوير والتصميم المستدام للمنتجات، مما يقلل من النفايات واستخراج الموارد الطبيعية، وبالتالي يخفض البصمة الكربونية للصناعات.
٣/ دور السياسات البيئية في مواجهة التحديات المناخية:
لا يمكن تحقيق أهداف الاقتصاد الأخضر دون إطار سياسي داعم. تلعب السياسات الحكومية والدولية دورًا حاسمًا في توجيه الاستثمارات والحوافز:
تسعير الكربون: فرض ضرائب على انبعاثات الكربون أو إنشاء أنظمة للتجارة بالانبعاثات، مما يجعل التلوث مكلفًا ويحفز الشركات على تبني تقنيات أنظف.
الدعم والإعانات: تحويل الدعم من قطاعات الوقود الأحفوري إلى دعم مشاريع الطاقة النظيفة والبحث والتطوير في التقنيات الخضراء.
وضع معايير ولوائح صارمة:
مثل وضع حدود قصوى للانبعاثات للصناعات، ومعايير كفاءة الطاقة للمباني والأجهزة.
غير أن تطبيق هذه السياسات يواجه تحديات، أبرزها مقاومة جماعات الضغط المرتبطة بصناعات الوقود الأحفوري، وارتفاع كلفة التحول الأخضر في المدى القصير.
٤/ إحصائيات وحقائق حول التغير المناخي وحلول الاقتصاد الأخضر:
وفقًا لتقرير المنظمة العالمية للأرصاد الجوية (WMO) لعام 2023، كانت السنوات التسع الماضية (2015-2023) هي الأكثر دفئًا على الإطلاق.
تشير تقارير الـ IPCC إلى أن الأنشطة البشرية تسببت في ارتفاع درجة حرارة الكوكب بحوالي 1.1 درجة مئوية فوق مستويات ما قبل الثورة الصناعية.
يُعتبر قطاع الطاقة مسؤولًا عن حوالي 73% من انبعاثات غازات الدفيئة العالمية (IPCC، 2022.
يمكن لتقنيات الطاقة المتجددة والتدابير المرتبطة بالكفاءة أن تقلل انبعاثات غازات الدفيئة العالمية بما يصل إلى 63% بحلول عام 2050IRENA، 2023.
في المنطقة العربية، تشير تقارير الأمم المتحدة إلى أن درجات الحرارة ترتفع بمعدل أسرع من المتوسط العالمي، مما يزيد هشاشة الاقتصادات المعتمدة على الزراعة.
خاتمة:
الاقتصاد الأخضر هو أكثر من مجرد اتجاه؛ إنه ضرورة حتمية لضمان مستقبل مستدام ومرن. من خلال الجمع بين استراتيجيات التكيف الذكية واستراتيجيات التخفيف المبتكرة، مدعومة بسياسات بيئية طموحة، يمكن للعالم ليس فقط مواجهة تداعيات التغير المناخي بل أيضًا بناء أساس لازدهار اقتصادي طويل الأمد يحترم حدود كوكبنا. يتطلب الأمر من الدول دمج الاقتصاد الأخضر في سياساتها الوطنية للتنمية، ومن الأفراد تبني أنماط استهلاك مسؤولة تقلل الهدر وتدعم الاستدامة.
المراجع:
– الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ (IPCC) (2022) تقرير التقييم السادس: Impacts, Adaptation and Vulnerability.
– المنظمة العالمية للأرصاد الجوية (WMO). (2023). حالة المناخ العالمي.
– الوكالة الدولية للطاقة المتجددة (IRENA). (2023). توقعات تحول الطاقة العالمية.

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.