
#ملف_الهدف_الاقتصادي
الحرب ليست فقط نزاعًا على السلطة أو جغرافيا المدن، بل هي امتحان عميق لقدرة الأمم على حماية قرارها الاقتصادي. والسودان، في أوج أزمته الحالية، يقف عند مفترق طرق خطير: هل يكتفي بوهم المساعدات والمعونات الدولية، التي تُساق إليه كإغراءات مشروطة، أم يلتفت إلى كنوزه الحقيقية الكامنة في الأرض والماء والذهب وغيره من الثروات المعدنية كالنحاس والكروم والإنسان؟
المشهد اليوم واضح:
الأسعار تشتعل، الأسواق تفلت من أي ضبط، سلاسل الإمداد تنهار، والمزارع في الجزيرة والغرب والشرق تُدمَّر بفعل الحرب أو تُهمَّش لصالح اقتصاد التهريب والسمسرة. وهنا نستذكر تجربة مشروع الجزيرة في عز عطائه، عندما كان سلة غذاء للسودان ومنطقة القرن الأفريقي، لندرك أن الإرادة السياسية هي التي تحوِّل التحديات إلى منجزات. في الوقت نفسه، السودان عضو فاعل في عدد من المنظمات الدولية، وقد وقّع على مواثيقها واتفاقياتها، واستفاد من الدعم الذي قدّمته في مجالات متعددة، سواء في أوقات الطوارئ أو في برامج الإنعاش المبكر. فقد لعبت منظمة الصحة العالمية دورًا في دعم النظام الصحي، وأسهمت اليونيسف في برامج الطفولة والتعليم، بينما قدّمت الفاو وإيفاد مشاريع لتعزيز الأمن الغذائي والتنمية الزراعية، إلى جانب ما وفره برنامج الغذاء العالمي والبرنامج الإنمائي للأمم المتحدة واليونسكو من مساعدات في مجالات التعليم والثقافة وبناء القدرات المؤسسية.
الحقيقة أن السودان، رغم الحرب، ما زال يملك من الإمكانات ما يتجاوز حدود المعونة: ملايين الأفدنة من الأراضي الخصبة، مياه النيل والأمطار، ثروات باطنية هائلة من الذهب والمعادن، وطاقات بشرية أثبتت قدرتها على الصمود في أحلك الظروف. السؤال إذن ليس عن الموارد، بل عن الإرادة: هل نملك الشجاعة لنكسر دائرة الاعتماد على الخارج، ونحوِّل الحرب من لعنة إلى لحظة وعي ببناء اقتصاد سيادي مستقل، يكون نواةً للتكامل الاقتصادي العربي بدل أن يبقى حلقة ضعيفة في سلسلة التبعية العالمية؟
وإن هذه العوائق الهائلة التي تفرضها الحرب المستمرة، مثل انعدام الأمن، وتفتت السلطة، وانهيار مؤسسات الدولة، تؤكد أن بناء الاقتصاد السيادي يجب أن يسير بالتوازي مع وقف الحرب وإعادة بناء مؤسسات الدولة، حتى لا يبدو المقال مثاليًا بشكل مفرط.
القضية الاقتصادية لا تُفهم كأرقام في تقارير البنك الدولي أو كجداول الموازنات، بل كمعركة تحرر حقيقية. فالتبعية الاقتصادية هي الوجه الآخر للاستعمار، والمعونة ليست بريئة؛ إنها أداة لإعادة تشكيل الإرادة الوطنية وفق مقاسات الخارج. أما الاكتفاء الذاتي، فهو جوهر السيادة، وهو التعبير الأصدق عن الحرية. إن معركة الخبز والزراعة والإنتاج ليست أقل شرفًا من معركة البندقية، بل هي امتداد طبيعي لها.
مقترحات عملية لرؤية بديلة:
1- سلطة الحكم المدني الحقيقية: التي تستند إلى الإرادة الشعبية الحرة، لا تلك الزبائنية الهشة المرتهنة لمعادلات الداخل وضغوط الخارج، فهي سلطة تُستمد شرعيتها من الناس وتعمل لأجلهم، لا من شبكات الولاء الضيقة أو المصالح العابرة.
2- الزراعة كركيزة سيادية: إعادة توجيه الأولويات الاقتصادية نحو دعم الزراعة المعيشية والاستراتيجية (القمح، الذرة، السمسم)، وتحرير الفلاح من قبضة الوسطاء والسمسرة، بما يحوِّل المزارع من ضحية للحرب إلى ركيزة للاستقلال الغذائي. ويمكن البناء على النماذج الناجحة لبعض التعاونيات الزراعية المحلية التي صمدت رغم الظروف.
3- الذهب بين التهريب وبناء الدولة: إيقاف نزيف التهريب المنظَّم للذهب والثروات الأخرى عبر الحدود، وتحويله إلى رافعة للتنمية الوطنية من خلال مؤسسات وطنية صارمة تضمن الشفافية والعدالة في التوزيع، لا عبر جيوب الطفيليين أو شبكات الخارج. وذلك من خلال إنشاء بورصة الذهب السودانية الخاضعة لرقابة صارمة، أو باستخدام تقنيات التتبع الرقمي لمنع التهريب.
4- الطاقة والموارد المائية: توظيف الأنهار والأمطار والمياه الجوفية كمصادر استراتيجية لإنتاج الغذاء والكهرباء، بعيدًا عن الارتهان لشركات أجنبية أو اتفاقيات تنتقص من السيادة.
5- الاقتصاد الرقمي كأفق جديد: الاستثمار في البنية التحتية الرقمية رغم الحرب، وخلق سوق إلكترونية سودانية–عربية مشتركة، بما يحمي البلاد من عزلة اقتصادية، ويمنح الشباب أدوات إنتاج حديثة بدل دفعهم للهجرة أو البطالة.
6- الإنسان كقيمة اقتصادية: تأهيل الكفاءات الوطنية وإعادة الاعتبار للمعلم والمهندس والعامل، فبغير الإنسان المنتج الواعي تصبح الموارد الطبيعية عبئًا لا نعمة.
إننا أمام خيارين لا ثالث لهما: إما اقتصاد تابع يعيش على فتات المعونات، وإما مشروع قومي للتحرر الاقتصادي يفتح للسودان وللأمة العربية باب الاستقلال الحقيقي. وفي لحظة الحرب هذه، لا مكان للحياد.
فهل نختار أن نكون تابعين تحت رحمة الآخرين، أم نعيد اكتشاف ذاتنا كأمة قادرة على أن تعيش من جهدها وعرقها وإرادتها الحرة؟ إن الحرية لا تُستكمل إلا بالتحرر الاقتصادي، فالأمة التي تعيش على معونات الآخرين لا تملك أن تبني مستقبلها، ولا أن تدافع عن كرامتها.
Leave a Reply