حين كتبت البنات أول أبجديات النهضة في السودان

صحيفة الهدف

منعم مختار

#ملف_المرأة_والمجتمع
لم يكن طريق تعليم البنات في السودان مفروشاً بالورود، بل كان محفوفاً بالأشواك التي غرسها ميراث طويل من الأعراف والتقاليد. ففي مطلع القرن العشرين، كان تعليم الفتاة يُعد ضرباً من التمرد على القيم السائدة، إذ كانت النظرة الغالبة ترى أن مكانها بيت الطاعة لا مقاعد الدرس. ومع ذلك، وُجد من الرجال والنساء من كسروا حاجز الصمت، ورفعوا راية الدفاع عن حق الفتاة في أن تتعلم وتشارك في بناء وطنها.

يأتي في مقدمة هؤلاء الرواد الشيخ بابكر بدري، الذي أسس أول مدرسة لتعليم البنات في رفاعة عام 1907، متحدياً مجتمعاً متوجساً من أن تقود المعرفة المرأة إلى “التمرّد”. لم يكن الرجل إصلاحياً فحسب، بل كان ثائراً في وجه قيود عقلية طالما كبّلت نصف المجتمع. ووراءه لحقت أصوات أخرى طالبت بفتح أبواب التعليم أمام البنات، فكان لهؤلاء الرواد فضل السبق في تغيير مجرى التاريخ الاجتماعي السوداني.

لكن هذا التغيير لم يمر بلا مقاومة. فقد اعتبرت بعض الأعراف أن تعليم الفتاة خطر على الحشمة والأسرة، ورأى آخرون أنه ترف لا تحتاجه سوى الذكور. غير أنّ إصرار جيل الرواد، ووعي بعض الأسر المستنيرة، جعل الفتاة السودانية تنتزع حقها في التعلم، حتى غدت مع مرور العقود منافساً جدياً للذكور في المدارس والجامعات. واليوم، تكشف الإحصاءات أنّ الطالبات يشكلن غالبية في كثير من الكليات، بما في ذلك الطب والهندسة والعلوم الاجتماعية.

الواقع الإحصائي الحديث لتعليم البنات في السودان

تكشف أحدث البيانات عن استمرار التحديات الكبيرة التي تواجه تعليم البنات في السودان، رغم ما شهده من تقدم. فوفقًا لمنظمة UN Women، فإن النزاع المستمر أدى إلى خروج نحو 2.5 مليون فتاة من المدارس حتى سبتمبر 2024، ما يمثل ما يقرب من 74 ٪ من الفتيات في سن التعليم ممن لم يتم تسجيلهن في أي برامج تعليمية رسمية . كما تحولت أكثر من 2,500 مدرسة إلى ملاجئ مؤقتة للاجئين داخليًا، مما ضاعف من هشاشة فرص التعليم للفتيات .

وتشير منظمة Save the Children إلى أن النسبة الإجمالية للالتحاق بالتعليم الأساسي (Gross Enrollment Ratio) تبلغ 73.2 ٪، إذ تختلف طبقًا للجنس، حيث تصل إلى 69.3 ٪ للبنات مقابل 74.6 ٪ للأولاد .

لقد أثبتت التجربة أن تعليم البنات ليس ترفاً بل ضرورة وطنية. فهو الذي أنجب طبيبات ومعلمات وباحثات وناشطات سياسيات، أسهمن في رفع مستوى الوعي العام وصون الصحة العامة، كما كان لهن دور لا يُنكر في صوغ الذاكرة الوطنية. فمنذ ثورة 1924 وحتى انتفاضتي أكتوبر 1964 وأبريل 1985، ثم ثورة ديسمبر المجيدة، كانت المرأة حاضرة في مقدمة الصفوف، تهتف وتداوي وتخط الشعارات على الجدران.

واليوم، لا يعود النقاش إلى ما إذا كان يجب تعليم البنات، بل إلى كيف نضمن جودة ذلك التعليم، وكيف نوظف طاقات المرأة في قيادة التنمية وإدارة شؤون البلاد. فالمجتمع الذي يحرم نصفه من حق التعلم، كمن يكتب تاريخه بيد واحدة.

إن تعليم الفتاة السودانية لم يعد قضية حقوقية فحسب، بل قضية وجود وبقاء لمشروع وطني حداثي. فالمرأة المتعلمة ليست مجرد ربة بيت أو موظفة، بل هي مدرسة للوطن كله، تحفظ ذاكرته، وتؤسس لمستقبله، وتدافع عن قيمه في الحرية والعدالة والتقدم.

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.