
عصام حسن إبراهيم
#ملف_الهدف_الثقافي
في عام 1971، غادر الشاعر شمس الدين حسن الخليفة مدينة عطبرة متجهًا إلى الإسكندرية في بعثة عمل استمرت ستة أشهر، رافقته خلالها زوجته السيدة وداد عبد الحميد إمام وطفلاه حنان وأحمد.
كانت أيام الإسكندرية مفعمة بالجمال؛ بطقسها الزاهي وشواطئها المترامية على البحر الأبيض المتوسط، غير أن موعد العودة حان، فعادت الأسرة إلى عطبرة حيث كان في انتظارهم موسم الغبار و”الكتاحة”. وما إن وصلت السيارة إلى المنزل، حتى تساءل إبنه الطفل أحمد، وكان حينها في الرابعة من عمره، ببراءة لاذعة”.. إنت ليه يا أبوي جبتنا من البلد السمحة ديك للبلد الكلها تراب وكتاحة دي؟”
دهش الشاعر من تعليق طفله، لكنه أجاب بحب صادق: “يا ولدي، مادي بلدنا.”
دخل شمس الدين منزله، وبين دفقة الحنين ومشاعر الانتماء الجارف، التقط قلمه ليخط قصيدته الخالدة “مرحبتين بلدنا”، التي غدت فيما بعد نشيدًا وجدانيًا للسودانيين. بدأها قائلاً:
مرحبتين بلدنا حبابها حباب النيل حباب الغابة
يـاها ديارنا نحن أصحابا نهوى عديلا ونرضى صعابا
وتدفقت الأبيات لتجسد الحب الذي لا تنال منه المشقة ولا يُضعفه الغبار:
بنعشق شمسها الحراقة وتلهب في قلوب دفاقة
نحن شعارنا حب وصداقة للناس الصفت أخلاقا
ولم يكتفِ الشاعر بالغناء للطبيعة، بل جعل القصيدة وعدًا بالعمل والبناء:
بسواعدنا راح نبنيها وأبدا ما بنفرّط فيها
لو كان فتنا من واديها من وين تاني تلقى الجيهة؟
وبين دفتي القصيدة، رسم شمس الدين صورة لوطن لا يشبهه وطن، ووضع على لسان شعبه عهدًا بالوحدة والتماسك:
متشابكات جميع إيدينا وبنتم جميع ما بدينا
هكذا وُلدت “مرحبتين بلدنا”؛ قصيدة خرجت من رحم الغبار و”الكتاحة”، لكنها حملت في طياتها ضوء النيل ودفء الغابة، وخلدت عشق شاعرٍ لوطنه رغم قسوة ملامحه، ليبقى صدى كلماتها حيًا في وجدان السودانيين حتى اليوم.
بقى أن نقول إن الشاعر المجيد شمس الدين حسن الخليفة الذي ولد في العام 1937، قد ارتبط اسمه بمدينة عطبرة بعد أن عاش فيها وأحبها، ومن خلالها عُرف بقصائده الوطنية والوجدانية التي جمعت بين صدق العاطفة وعمق الانتماء. فمجمل قصائده بالعامية السودانية الفصيحة النابعة من وجدان الناس، واشتهرت كلماته بأناقتها وبساطتها في آن واحد.
لكن تظل قصيدة “مرحبتين بلدنا” إحدى خوالد القصائد، وقد تحولت إلى أيقونة غنائية مجسّدة لحب الوطن، بجانب العديد من النصوص التي تغنى بها فنانون كبار في السودان. كان شمس الدين شاعرًا إنسانيًا صادقًا، جعل من الشعر جسرًا بين العاطفة الفردية والوجدان الجمعي للشعب السوداني.
Leave a Reply