
إحسان الله عثمان
#ملف_الهدف_الثقافي
الإسقاط النفسي مفهوم سيكولوجي يُقصد به أن ينسب الفرد مشاعره أو رغباته أو مخاوفه إلى الآخرين. في الأعمال الأدبية يأخذ شكلًا أكثر تركيبًا، حيث يُعَد تقنية تُضفي على النص عمقًا إنسانيًا عبر كشف الجوانب الخفية للشخصيات والكثافة الرمزية، مما يجعل السرد مسرحًا داخليًا متعدد الأبعاد، ومساحات يطلّ منها اللا وعي، وتتصارع فيه الرغبات والمخاوف والرموز، ويصبح حافزًا للبحث عن العلاقة بين الظاهر الحكائي والباطن النفسي، والتشويق الفني، والتأويل، وتعدد الدلالات.
ساهمت الدراسات النفسية في خلق فرص للأدباء والمفكرين لبناء شخصيات أدبية ذات تأثير مشوّق، فكانت المقاربة فتحًا للا شعور ومجاهيل البشر وتساميهم، واستكشاف مجاهل الروح البشرية وتناقضاتها، وتقديم رؤية جديدة للإنسان، خرجت به إلى الرؤية الواقعية كبشر له أهواؤه ومخاوفه وأحلامه وموروثاته.
تتجلّى الإسقاطات النفسية في القصة والرواية والسينما من خلال التعاطف مع الشخصيات، وتنمية الذات عبر تجارب الآخرين، وتعميق الفهم لدوافع البشر، والتفاعل العقلي والعاطفي مع الأحداث، إضافة إلى التأثير على السلوك وتشكيل الوعي. وتتعمق هذه التأثيرات في الفيلم السينمائي من خلال العناصر البصرية والسمعية التي تتيح تجربة حسية أقوى مقارنة بالنص الأدبي.
في مقاربات تحليلية، تناولت الدراساتُ الإسقاطات النفسية في الصورة السينمائية باعتبارها فضاءً للتجربة الفكرية والنفسية، ومختبرًا معقدًا لإعادة إنتاج العالم الداخلي للإنسان في صور بصرية وحركية. وما يميز الصورة السينمائية هو قدرتها على النفاذ إلى أعماق النفس؛ بحيث لا تكتفي بتمثيل الواقع الخارجي كما هو، بل تحوّله إلى انعكاس للذات الفردية والجماعية، فتغدو الشاشة مسرحًا للصراعات المكبوتة، للهواجس المضمرة، والتجارب الشخصية، والتساؤلات العميقة.
من منظور التحليل النفسي، تتداخل نظريتا فرويد ويونغ في تفسير الأعمال الأدبية من خلال مفهوم اللا وعي. الفرويدية تحمّل القصة والرواية والصور السينمائية إمكانية تجسيد اللا شعور على المستوى الفردي وإعطائه لغة خاصة به. الأحلام، التي وصفها فرويد بأنها “الطريق الملكي إلى اللا وعي”، تجد امتدادها الطبيعي في الرمزية والإزاحة والتكثيف وبناء عوالم بديلة تحاكي الواقع لكنها لا تطابقه.
كارل يونغ يرى أن الإسقاط في العمل الأدبي ينبع من اللا وعي الجمعي والرموز الأولية، حيث تجسد الشخصيات الأنماط الأصلية العالمية التي تشترك فيها الإنسانية، مما يوفر للأشخاص تفسيرات لمعانٍ أعمق في حياتهم. فالنماذج الأصلية والشخوص والزمان والأمكنة تتحرك من اللا وعي الجمعي، الذي يتضمن الخبرات المشتركة والتجارب المنسية عبر التاريخ البشري، إلى الصورة العينية. وبذلك يصبح الفيلم أو النص الأدبي ممارسة رمزية يتماهى معها المتلقي، فيجد فيها ذاته موزعة بين الشخصيات، ويتعرف على نفسه في مواقف الحبكة وتواترات الأحداث.
هذا البعد النفسي يلتقي بالبعد الفلسفي؛ فالنصوص الأدبية والسينمائية قادرة على استحضار الأسئلة الكبرى للفلسفة في صياغة بصرية وذهنية لأسئلة وجودية. عندها نكون أمام جمالية ما بعد حداثية، حيث تتداخل حدود الفردي والجماعي، الواقعي والمتخيَّل، النفسي والفلسفي، ونرى في الصور وبين السطور ظلالنا وأحلامنا وأوهامنا.
تتقاطع وتختلف الرواية والقصة والصورة السينمائية في آلية الخطاب والإسقاطات النفسية؛ فكلاهما يعتمد مشاركة المتلقي في بناء الدلالة، وكلاهما يخلقان عوالم تحتاج إلى قارئ أو مشاهد يملؤها بالحياة. فبينما تعتمد الرواية على الخيال الذهني واللغة المكتوبة وزمن قراءة مفتوح وذاتي مع فراغات سردية أوسع، نجد السينما تعتمد على الإيحاء البصري والسمعي المباشر المحدَّد بإيقاع وزمن العرض. وهذا الاختزال ينتج عنه الاستغناء بالصورة ومدى شموليتها عن الوصف السردي المسهب في الرواية، ويحدّ من حرية التخييل لصالح الصورة الجاهزة.
مصادر:
– “الصورة السردية في الرواية والقصة والسينما”، ماجدولين شرف الدين، الدار العربية للعلوم 2010
– “إسقاطات علم النفس على الصور السينمائية”، المهند الناصر، مجلة سومر السينمائي 2023
– “علم النفس التحليلي عند كارل جوستاف يونج”، محمد عناني، مؤسسة هنداوي 2023
Leave a Reply