
إنصاف الشفيع
#ملف_الهدف_الثقافي
اليوم،كان آخر يوم في السنة الدراسية، قضيت عدة ساعات داخل المدرسة لتسليم طالباتي شهادات نتائج الامتحانات، توجهت بعدها إلى محطة المواصلات بالشارع الرئيسي القريب من المدرسة، اقتربت مني إحدي الطالبات، مدت إلي يدها الصغيرة..
– مع السلامة يا أستاذة.
– مع السلامة، وإجازة سعيدة إن شاء الله..
– سأفتقدك، والمدرسة.. ثم بفرحة لا تخفى في نبرة صوتها، فأنا مسافرة إلى بلادي..
نظرت إليها بدهشة..
– بلادك؟ أين؟
– الصومال، سأعود مع أسرتي ضمن برنامج العودة الطوعية للاجئين الصوماليين..
لشد ما هالني ما نطقت به، فأنا حتى تلك اللحظة لم انتبه إلى أنها غير سودانية.. لا في ملامحها ولا في لهجتها..
اسرعت بإحتضانها، وكأني أعتذر عن جهلي لما تفوهت به أمامي للتو.. تمنيت لها سلامة الوصول.. ومستقبل مشرق لها ولبلادها..
تابعتها نظراتي وهي تبتعد لتدخل أحد الشوارع الجانبية إلى حيث تسكن.. فاطمة الصغيرة الوديعة، كيف فاتني أنها عاشت بيننا لاجئة؟ كيف لم ألحظ في عينيها شوقها وحنينها إلى موطنها؟ كيف لم انتبه إلى حزنها على فراق أرض أجدادها؟
لا بد أنها كانت تعاني.. تعاني حين تدرس مع رفيقات يذكّرنّها بوجوه رفيقاتها اللاتي اعتادت ملامح وجوههن منذ نشأتها في بلادها، تعاني حين يتحدثن عن طفولتهن القريبة وحاضرهن ومستقبلهن، وتصمت هي لأنها لا تملك إلا حاضرها، فالحديث عن ما مضى من أيامها يحزنها، والتفكير في المستقبل المجهول يخيفها.. تعاني حين تتحدث بلهجة غير لهجتها الأم.. تتألم هي وأسرتها حين تتابع أخبار بلادها عبر نشرات الأخبار.. حين يأتيهم نعي قريب أو جار حصدت روحه آلة الحرب فيما حصدت من أرواح..كيف؟ كيف لم ألحظ كل ذلك؟
آه يا صغيرتي.. لمَ لم تخبريني من قبل؟
وهل تشفع لي معاملتك كأي طالبة، دون تمييز؟ هل يكفي كوني حسبتك كغيرك من الطالبات اللائي ينلن حظهن من التعليم الحكومي، والذي هو من حق أي مواطن ومواطنة في البلاد؟
تلح علي ذكرى فاطمة الصغيرة الجميلة بعد سنوات وأنا أعيش تجربة اللجوء نفسها.. إحساس طاغي بالألم والذنب تجاهها.. فقد كانت طفلة صغيرة هشة الدواخل، حين مرت بما أمر به الآن..
سنوات كثيرة مرت منذ رأيتها لآخر مرة وهي تتأهب للعودة إلى وطنها.. ربما هي تعيش الآن سعيدة وسط عشيرتها.. أم قوية تنشئ أبناءها على الحب والبذل والصبر.. وربما تحكي لهم عن ذكرياتها في بلادي التي لم تعد كما عرفتها..
عتبت عليك يا فاطمة حين لم تكشفي لي عن هويتك.. ساعدك في ذلك لوننا وملامحنا المتشابهة فعشت بيننا كريمة، وحق لك ذلك، دون الاضطرار للإفصاح عما تعانيه من هوان الغربة ومرارة اللجوء..
أنا الآن يا بنيتي ولأنني لا أجيد الحديث بغير لهجتي السودانية ويعكس لون بشرتي وملامحي الإفريقية مدى غربتي في هذه البلاد، أفكر في إنك ربما كنت أوفر حظًا مني.. لكنني بالطبع لا أقلل من حجم معاناتك ولا من قسوة تجربتك..
أدرك أن لي واجبًا لم أؤده تجاهك.. تمنيت لو فعلت.. وأوصلت لك شعوري حينها.. مجرد الإحساس بمعاناتك، هو ما افتقده واتوق إليه.. عذرًا يا بنيتي، فالآن فقط بتُّ أفهم ما تعنيه كلمة (لاجئة).
Leave a Reply