
مجدي علي
#ملف_الهدف_الثقافي
تبدو السينما العالمية هذا العام وكأنها تعيد اكتشاف ذاتها، عابرةً من فضاء الصورة والصوت إلى فضاء الروح والذاكرة. ففي المهرجانات الكبرى، من البندقية إلى برلين وكان وتورنتو، ارتسمت ملامح اتجاهات بارزة ميّزت الشاشة: عودة الدين كقوة جمالية وفكرية تحرّك السرد البصري، واقتحام القضية الفلسطينية قلب المشهد كجرح إنساني ورمز مقاوم للزمن.
لم يعد الدين في الأفلام مجرّد خلفية أسطورية أو إطار طقسي، بل غدا نداءً يتردّد في أعماق الشخصيات. ففي أعمال مثل “وصية آن لي” و”أم” حضرت الرموز الدينية لتفتح أسئلة وجودية كبرى: الحرية في مواجهة التقاليد، والسمو الروحي في مواجهة ثِقَل العالم، والبحث عن عدالة تتجاوز حدود الفرد نحو معنى أرحب للإنسانية. إنها محاولة فنية لإعادة تشكيل الروح في زمن مثقل بالظلم، وبالتحديات المادية والسياسية.
وعلى الضفة الأخرى، برزت فلسطين كحقيقة جمالية وسياسية لا يمكن تجاهلها. من “فلسطين 36” لآن ماري جاسر، إلى “غزة مونامور” للأخوين ناصر، ظلّ الصوت الفلسطيني يتردّد في صالات العرض كقصيدة مغمّسة بالدمع والرجاء، حاصدًا الجوائز والإشادات. أما الغوص في ثنيا حاضر غزة اليوم فقد جاء مع فيلم “صوت هند رجب”، الذي التقط تفاصيل الحياة هناك بلغة بصرية مؤثرة، فاستحق أن يتوَّج بجائزة الأسد الفضي في مهرجان البندقية السينمائي، وبذلك لم يُكرَّس العمل كإنجاز فني متميّز فحسب، بل كصرخة عالمية تحمل اسم غزة إلى فضاءات الفن، لتجعل من القضية الفلسطينية معادلاً شعوريًا وكونيًا للبحث عن الحرية والكرامة، وتضيف إلى السينما العالمية عمقًا إنسانيًا متجذّرًا في الواقع.
ولم تقف فلسطين عند حدود الشاشة، بل خرجت إلى الشوارع المحيطة بالمهرجانات. التظاهرات والوقفات التضامنية التي جمعت بين الفن والجمهور عبّرت عن التلاقي بين لغة الصورة وصرخة الاحتجاج. هذه المشاهد جعلت من الحكاية الفلسطينية سؤالًا إنسانيًا كونيًا يضيء قضايا الحرية والكرامة والحق في الحياة.
هكذا التقت الاتجاهات الجديدة: الدين نافذة للتأمل الفلسفي والأخلاقي، وفلسطين جسدًا للكرامة والعدالة. بهذا التلاقي استعادت السينما بعدها التأملي والفلسفي، لتغدو مرآة للصراعات الروحية والأخلاقية في المجتمعات المعاصرة، ولتستعيد معناها الأصيل: أن تكون جسرًا بين الواقع والحلم، بين الشك والإيمان، بين التأمل الفني والمقاومة الإنسانية.. لتؤكد من جديد أن الفن ليس ترفًا جماليًا فحسب، بل فعلًا نقديًا وصرخة ضمير..
مع هذه التحولات، وما نشهده اليوم من اتجاهات في جديدة في خارطة الشاشة الكبيرة ليس حدثًا عابرًا، بل بداية لمرحلة جديدة قد تغيّر علاقة الفن بالإنسان والإنسان بالعالم.
Leave a Reply