النفير في السودان.. من روح الجماعة إلى تهديد الفردانية الحديثة

صحيفة الهدف

يوسف الغوث
#ملف_الهدف_الثقافي
منذ فجر التاريخ، ظل الريف السوداني على امتداد ضفاف النيلين الأزرق والأبيض، وسهول الجزيرة، وكثبان رمال كردفان ودارفور، وقرى الشرق والشمال مدرسةً في التضامن والتكافل. في هذه البيئات المتنوعة وُلد النفير، باعتباره تقليدًا أصيلًا يترجم قيم العون المتبادل والتشارك في السراء والضراء.
لم يكن النفير مجرد عادة، بل هو عقد اجتماعي غير مكتوب. ففي موسم الحصاد، يتداعى الرجال والنساء والأطفال لمساعدة المزارع. وفي الجزيرة مثلًا يتحول “الكديب” إلى مهرجان للعمل الجماعي. وفي النيل الأزرق ودارفور يجتمع الناس لحصاد الذرة والسمسم. وفي الشمال يشيد الأهالي السواقي والبيوت، بينما في الشرق وكردفان يلتفون لبناء بيوت الزواج أو إغاثة المتضررين من الجفاف. هذا التقاليد صنعت وحدة اجتماعية متماسكة عبر القرون.
لكن في المقابل ومع موجات الحداثة والعولمة، أخذت قيم جديدة تتسلل، قائمة على الفردانية والمصلحة الخاصة، وهي قيم أشبه بما يسميه البعض “الفِرعونية الحديثة”، حيث يسعى كل فرد لبرجه المعزول ومكاسبه الخاصة، متناسيًا الجماعة التي شكلت حصنه الأول. سهولة الاتصالات ووسائل النقل ربطت القرية بالمدينة، لكنها أضعفت في كثير من الأحيان روح النفير، واستبدلتها بحسابات نفعية ضيقة.
إن النقد هنا ليس للمدنية في ذاتها، بل للطابع الاستهلاكي والأناني الذي يغزو المجتمعات ويقوض جذورها. ففي حين كان النفير يستمد قوته من الأغاني الشعبية وإيقاعات الطبول التي تشعل الحماسة، نجد اليوم أن كثيرًا من المناسبات تُختزل في مظاهر استهلاك فردي لا تعكس قيمة المشاركة.
النفير بصفته مشروعًا أخلاقيًا قبل أن يكون ممارسة عملية، يذكّرنا بأن المجتمعات السودانية من النيل الأزرق إلى دارفور، ومن الشمال إلى الشرق والجزيرة لم تبنِ وحدتها إلا بروح الجماعة. وإذا تخلت الأجيال الجديدة عن هذا الإرث فلن تكون النتيجة سوى عزلة اجتماعية وانقسام يهدد السلم الأهلي.
إن استعادة النفير ليست حنينًا إلى الماضي، بل دعوة لإعادة الاعتبار لقيمة التضامن في مواجهة أنانية الحاضر، وبناء مستقبل تُصان فيه وحدة السودان وتماسك نسيجه الاجتماعي.

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.