أطلال الخرطوم

صحيفة الهدف

مصطفى أبو هاجر
#ملف_الهدف_الثقافي
لقد كانت الخرطوم في ذهني كما لو أنها تومض في ذاكرة الأيام، مدينة تمتزج فيها رائحة التاريخ وعبق المستقبل. كانت شارعًا مفعمًا بالحياة وأفقًا يعانق الطموح. لكن اليوم ما عادت الخرطوم هي ذات الخرطوم التي تركتها قبل الحرب. لقد تحولت إلى صورة مهدّمة، غارقة في صمتٍ بارد، حيث تختلط رائحة الخراب بحزنها العميق.
أمشي بين أطلالها الآن، كمن يبحث عن ذكريات ضاعت في زحام الواقع. أرى المدينة وقد أصبح سكانها في أغلبهم أسرى هذا الخراب الذي لا يرحم. هم من لا يملكون بديلًا سوى البقاء بين الجدران التي كانت يومًا شاهدة على الحياة، لكن اليوم أضحت شاهدة على الموت البطيء. يبدو أن الحرب لم تترك لنا إلا أطلالًا نبكي عليها، بينما يسود القلق في كل زاوية، في كل نفسٍ يتنفسه أبناؤها.
والأكثر مرارة هو أن هذه الخرطوم كما يبدو ليست مجرد مدينة، بل هي مرآة لما أصبحت عليه بلادنا. المدى الذي كانت تتسع له الآمال يبدو الآن ضيقًا، والحلم الذي طالما كانت تحمل خرائطه بين شوارعها أصبح مبهمًا. في غياب السلام كل شيء بات ضبابيًا. لا يمكننا أن نحدد وجهة المستقبل أو كيف ستعود الحياة لتشرق مجددًا على هذه الأرض.
أشعر أن ما أصاب الخرطوم ليس مجرد دمار مادي، بل هو دمار روحي وعاطفي. الخرطوم مدينة القلب، والتي كانت قلب السودان، أصبحت الآن مجرد ظل لنفسها. والقلق يملأني: كيف سيكون المستقبل؟ هل سيعود الاستقرار؟ أم ستظل هذه الخرطوم تسكنها جروحها، وأرواحنا تئن تحت وطأة الأسئلة التي لا إجابة لها؟
لكن مع كل هذه الآلام والخراب، قررت أن أعود إلى قريتي الحالمة بحلفا الجديدة، تلك التي احتفظت بذكرياتي وأحلامي. ربما هي آخر محطة للسلام الداخلي في عالم مليء بالفوضى. سأودّع الخرطوم وكل حزنٍ حملته في قلبي على أمل أن تعود هذه المدينة كما كانت يومًا ما. فقد خاصرتها الحمى والأمراض، وما عاد هناك سبيل لعملٍ يمنحك حياة كريمة وسط هذا السواد الذي يغلف الأيام. في حلفا الجديدة، رغم صمتها، أجد نفسي أكثر سلامًا، وأشعر أن هناك مساحة أكبر للأمل، حيث يمكننا أن نعيد البناء من جديد، حتى ولو على أنقاض الخراب.
إنها ليست مجرد مدينة في نظر الكثيرين، بل هي رمز للأمل الذي اختفى. لكن ربما، كما علّمنا التاريخ، حتى في أعمق الظلام هناك بصيص من النور. وسيبقى الأمل رغم كل شيء، هو ما يمكن أن يجعل الخرطوم، بل وكل السودان ينبض من جديد.
وغدًا تشرق الشمس..

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.