في حضرة الطيب عبد الله: قراءة في رائعة “قالوا لي أنساه”

صحيفة الهدف

أمجد أحمد السيد
#ملف_الهدف_الثقافي
لا تزال الأغنية السودانية الكلاسيكية تحتفظ بخصوصيتها في التعبير عن الوجدان الجمعي، حيث تتشابك فيها خيوط العاطفة الفردية مع الرموز الإنسانية الكبرى. ومن بين الأصوات التي رسخت هذا الإرث يبرز الفنان الطيب عبد الله، بصوته المغموس بالشجن، وأدائه الذي يجمع بين الصدق والبساطة والعمق. ولعل أغنيته الخالدة “قالوا لي أنساه” واحدة من أبلغ ما قدّم، حيث تتجاوز كونها مجرد نص غنائي، لتغدو لوحة إنسانية تعكس صراع الذاكرة والوفاء والفقد.
بين النسيان والذاكرة
تفتتح الأغنية بمواجهة مباشرة بين إرادة الآخرين ورغبة القلب:
“قالوا لي أنساه وامسح من خيالك ذكرياتو”،
لكن الشاعر يقف أمام استحالة المحو. فالتجربة العاطفية هنا ليست طيفًا عابرًا، بل تاريخًا شخصيًا منقوشًا في الروح، أقوى من نصائح العذّال وأقاويل الوشاة.
الحب كقيمة إنسانية
حين يقول:
“السنين العشت فيها معاك هنايا… أقوى من قول العوازل”،
يؤكد أن الحب في جوهره قيمة إنسانية عليا، تعلو على الضغائن الاجتماعية، وتنتصر على محاولات النسيان. وحتى في لحظة الانكسار يظل الحبيب راضيًا، إذ يرى في العاطفة تضحيةً طبيعية: “في الغرام كم من ضحايا”.
تحويل الألم إلى فن
الأغنية تنقلنا إلى لحظة المصالحة مع الألم:
“أهدهد الشوق بين ضلوعي.. وأترجم الآلام أغاني”.
هنا يتحول العذاب الشخصي إلى إبداع مشترك، إذ يصبح الشجن مادة فنية يتقاسمها الناس. وهذا ما يميز الأغنية السودانية الكلاسيكية: قدرتها على جعل التجربة الفردية جماعية الطابع.
رمزية الاغتراب
الجزء الأخير من النص يفتح أفقًا رمزيًا أوسع:
“الغريب عن وطنو مهما طال غيابو.. إلا قلبي في هواك طال اغترابو”.
يشبّه الشاعر حالته بحال المغترب العائد إلى وطنه، لكنه يكشف أن القلب لا يزال في اغتراب دائم داخل فضاء الحب الضائع. بهذا المعنى يتجاوز النص حدود الغرام الشخصي ليحيل إلى معانٍ أشمل عن الانتماء، والحرمان، والبحث عن ملاذ داخلي.
يأتي أداء الطيب عبد الله ليضاعف من قوة النص، إذ يذيب الكلمات في صوته الدافئ، فيجعل المستمع يعيش التجربة وكأنها حكايته الخاصة. وهذا سر خلود الأغنية: الصدق الفني الذي يربط النص باللحن بالصوت في وحدة متكاملة.
“قالوا لي أنساه” ليست مجرد قصة حب فاشلة، بل نص يختزن جدلية الوفاء والفقد، الذاكرة والنسيان، الوطن والاغتراب. إنها مرآة لتجربة إنسانية أوسع، تفسر سر تعلق السودانيين بهذا اللون الغنائي الذي لا يشيخ، لأنه ينبع من أعماق التجربة الإنسانية المشتركة.

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.