الافتتاحية: الثقافة.. سلاحنا الأقوى عندما يصير القلم بندقية والشعر خندقًا للمقاومة

صحيفة الهدف

#ملف_الهدف_الثقافي
ليست القضية الفلسطينية صراعًا على أرضٍ فحسب، بل هي معركة وجود على رقعة التاريخ والذاكرة. وفي خضم هذا الصراع، لم يكن السلاح الوحيد هو الحجر والبندقية، بل كان هناك سلاح أعمق أثرًا وأبعد مدى: القلم. لقد أدرك الأدباء والشعراء الفلسطينيون أن المعركة الحقيقية هي معركة السردية، وأن الثقافة هي الخندق الأخير الذي يحفظ هوية شعب يريد المحتل طمسه.

منذ النكبة، تحول الأدب الفلسطيني من مجرد تعبير عن الألم إلى فعل مقاومة وجودي. لم يكتب الشعراء قصائدهم ليكونوا أدباء فحسب، بل ليكونوا حراس الذاكرة ومُعيدي بناء الوطن بين السطور. لقد حملوا فلسطين في قلوبهم وأقلامهم، فصاروا روادًا لنهضة ثقافية جعلت من القضية قضية إنسانية قبل أن تكون سياسية.

ناجي العلي: رسام الكاريكاتير الذي حوّل القلم إلى مِقْصلة

لم يكن ناجي العلي مجرد رسام كاريكاتير، بل كان نبيًّا بصريًا لمأساة شعبه. من خلال شخصية “حنظلة”، ذلك الطفل الذي ولد في العاشرة من عمره ولم يكبر، لأن فلسطين لم تكبر بعد، استطاع ناجي أن يختزل كل الظلم والقهر في صورة واحدة. حنظلة، الذي ظهر لنا ظهرًا كتعبير عن الرفض والعزلة، أصبح أيقونة عالمية للمقاومة السلمية. لم يرسم ناجي ليمزح، بل ليقول للحقيقة: “ها أنا ذا”. وكانت رصاصات الغدر التي قتلته دليلاً على أن رسوماته كانت أخطر من أي بيان عسكري.

محمود درويش: شاعر الأرض والهوية

إذا كان ناجي العلي هو العين التي ترى، فإن محمود درويش هو الصوت الذي يصدح. كان درويش شاعر التفاصيل الصغيرة التي تصنع الوطن. لم يتحدث عن فلسطين ككيان مجرد، بل كأم تطحن القمح، وكزيتونة عتيقة، وكعصافير لا تعرف الحدود. جعل من القضية الفلسطينية قضية كل إنسان يحب، يحلم، ويخاف الموت. قوله الشهير: “على هذه الأرض ما يستحق الحياة”، لم يكن مجرد بيت شعر، بل كان دستورًا للمقاومة بالحياة نفسها.

غسان كنفاني: الروائي الذي حوّل المأساة إلى مشروع ثوري

لم يكتب غسان كنفاني ليحكي، بل ليُنظّر للمقاومة. في روايته “رجال في الشمس”، لم يسأل: “لماذا ماتوا؟”، بل سأل: “لماذا لم يطرقوا جدار الخزان؟”. كان سؤاله استنطاقًا للأمة كلها: لماذا الصمت؟ لماذا القبول بالمذلة؟ لقد حوّل كنفاني الأدب من سرد المأساة إلى فعل تحريضي يدفع نحو التغيير. واستشهاده كان تأكيدًا على أن كلماته كانت قنابل موقوتة في وجه المحتل.

أدباء وشعراء آخرون: جيش الورق والحبر

لم يكن هؤلاء وحدهم، بل كان هناك إميل حبيبي بسخرية السوداء التي تكشف التناقض، وسميح القاسم بشعره الذي كان يشبه دوي المدافع، وفدوى طوقان التي جعلت من حب الوطن حبًا أنثويًا قويًا وحانيًا في آن.

هؤلاء لم يكونوا مجرد مبدعين، بل كانوا مقاتلين في جيش آخر، جيش الورق والحبر. لقد قدموا لفلسطين سلاحًا لا يصدأ، ولا ينفد، سلاحًا يصل إلى أماكن لا تصلها الصواريخ: الضمير الإنساني العالمي.

الثقافة الفلسطينية لم تكن رد فعل على المحتل، بل كانت فعلًا تأسيسيًا لوجود بديل عن الوجود المفقود. هي البيت الذي لم يستطع المحتل هدمه، والذاكرة التي لم يستطع حذفها. وها هو أدبهم وشعرهم يثبت يوميًا أن المقاومة بالثقافة هي أشرس أنواع المقاومة، لأنها تحافظ على الحياة نفسها، وتحول الموت إلى قصيدة، والدم إلى حبر، والشتات إلى لوحة، والفقد إلى أغنية تملأ العالم.

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.