الدين في فكر البعث: من الروح إلى الدولة ومن المقدّس إلى النهضة (2)

صحيفة الهدف

أ. طارق عبد اللطيف ابوعكرمة

منذ اللحظة التي قال فيها الأستاذ القائد المؤسس ميشيل عفلق عبارته الخالدة: (لقد كان محمدٌ كلَّ العرب، فليكن كلُّ العرب اليوم محمدًا)، أدرك المتأملون في الفكرة القومية أن حزب البعث العربي الاشتراكي لم يكن – ولن يكون – خصمًا للدين، ولا ناطقًا باسم الكفر كما افترى بعضهم، بل كان دائمًا، وبعمق وجودي، تيارًا يروم التكامل بين الروح والعقل، بين الإيمان والعمل، وبين الإنسان والتاريخ. لا لأن البعثَ دينيٌ في مظهره، ولا لأنه استثمر في الشعائر لتمرير السياسات، بل لأنه فهم الدين كقوة تحرير، لا قيدًا، وكرافعة نهضوية، لا مظلة للاستبداد.

إن من أسوأ ما أُلصق بفكر البعث، في سياقات محمومة بالإقصاء، ذلك الفهم السطحي الذي اختزل علاقته بالدين في ثنائية (البعث ضد الإسلام)، وكأن الدين لا يُفهم إلا ضمن خطاب سياسي طائفي، أو وفق سردية استئصالية حاكمة. في حين أن النصوص التأسيسية للحزب، وخطابات قادته، وتجارب دولته، تبيّن بشكل قاطع أن حزب البعث لم ينظر إلى الإسلام كخصم، بل كملهم. لا كحزب ديني، بل كرسالة روحية تُنير درب الأمة العربية نحو حريتها ووحدتها وعدالتها.

لم تكن مقولة (الإسلام رسالة العرب)، كما طرحها الأستاذ ميشيل عفلق، تعني أسلمة البعث، بل تعني أن الروح الإسلامية التي صنعت أول نهضة عربية كبرى في التاريخ، يجب أن تُستعاد لا بوصفها دولة الشريعة، بل كوعي أخلاقي يُفجّر الطاقات نحو مشروع الإنسان الكامل. لقد فهم حزب البعث الدين لا من زاوية النص الجامد، بل من مقام الفعل المتجاوز، الذي يحرر العقل من الطغيان، والجماعة من التناحر، والسياسة من الكهنوت.

ولعل أبرز ما ميّز الطرح البعثي هو رفضه القاطع لتحويل الدين إلى أداة تمكين سلطوي أو غطاء تعبوي. من هنا جاء موقفه الواضح من الحركات المغطاة بالدين، التي استبدلت جوهر الدين بقشوره، وقيمه بإعلامه، ومسجده بمنصته. فالبعث عارض (الإسلام السياسي) لأنه رأى فيه مشروع تطييف، لا توحيد؛ مشروع ولاء مذهبي، لا انتماء قومي. وكما قال الأستاذ عفلق: (الله لا يُوظّف، بل يُعاش)، وكما جسّد الشهيد صدام حسين: (الإيمان عمل وليس ادّعاء).

في ظل الحكم الوطني في العراق، لم تُفصل القيم الدينية عن الحياة، بل فُصلت الطائفية عن السياسة. لم تُطرد الأخلاق من الحكم، بل طُرد الاستغلال الديني من مؤسسات الدولة. وقد كان ذلك عبر صيغة فكرية نادرة، تقوم العلاقة بين الدين والدولة على استقلالية كل منهما وتكاملهما، فالدولة ضد الإلحاد ومع الإيمان، لكنها لا تدعي تمثيل الإسلام.  فإن معارضة الدولة لا تعتبر خروجاً على الدين، بل خروجاً على النظام السياسي والقوانين السارية. بالتالي فهذه العلاقة لم تكن استئصالاً، بل تحريرًا، ولم تكن قطيعة مع الإيمان، بل فصلًا بين المقدّس كقيمة، والدولة كأداة.

إن الدين – كما عبّر عنه فكر حزب البعث – ليس شأنًا طقوسيًا، بل شأن وجودي، هو وعي بالعلاقة بين الإنسان والمطلق، بين الفرد والمجتمع، بين الماضي والغاية. والإسلام، في هذا السياق، هو خزان الذاكرة الحضارية للعرب، وهو ما يجعل استلهامه أمرًا بديهيًا لا بديل عنه، لبناء مشروع قيمي، لا تُباع فيه الحرية باسم الدين، ولا تُشترى فيه الطاعة بمصطلحات الغيب.

وفي مواجهة الاستلاب الطائفي الآتي من طهران، لم يلجأ حزب البعث إلى الرد الإلحادي، بل إلى خطاب ديني توحيدي، يعيد الإسلام إلى فضائه القومي، وينتزع المقدّس من فم الطائفة ليضعه في وجدان الأمة العربية. وقد كانت تجربة الحكم الوطني العراقية مثالًا عمليًا على ذلك، فمواجهة المشروع الإيراني – الطائفي، ليس بالكراهية، بل بالوعي. وليس عبر تسليح المذهب، بل بإحياء روح الرسالة النبوية في بعدها الإنساني والتحرري.

لقد قال الشهيد صدام حسين يومًا: (العلاقة بين الدين والسياسة يجب أن تكون كالعلاقة بين القلب والعقل)، وهي عبارة تلخص كل شيء، لا قطيعة، ولا اندماج؛ بل تكامل حيّ يحفظ للدين دوره الأخلاقي، ويحفظ للسياسة استقلالها عن الاحتكار باسم الله. وهذا التكامل هو ما تفتقر إليه كل الثنائيات التي مزّقت الأمة العربية بين تديّنٍ زائف، وعلمنة خشبية، وبين دولة بلا روح، وروح بلا دولة.

في زمن الاصطناع الديني، حيث صار الخطاب الديني سوقًا للمزايدة، وصار الإيمان زينة لفظية تُباع على الأرصفة السياسية، يصبح فهم حزب البعث للدين ضرورة فكرية ومجتمعية. ليس لأنه يقدّم وصفة سحرية، بل لأنه يعيد تشكيل العلاقة بين الذات والله على قاعدة التحرر، لا التسلط، وبين الدولة والمقدّس على قاعدة التوازن، لا الإقصاء.

إننا بحاجة إلى تجديد هذا الفهم البعثي للدين في الخطاب الثقافي، وفي المناهج، وفي الحوارات السياسية، لا لنخوض معركة الدفاع، بل لنخوض معركة البناء، بناء خطاب عقلاني – روحي، لا يُقصي الإيمان، ولا يؤلّه النص، لا يُعادي التديّن، ولا يستثمر فيه.

إن الدين في فكر حزب البعث ليس صكَّ غفران، ولا سيفًا مشرعًا، بل (طاقة حياة) إذا أُسيءَ استخدامها تحوّلت إلى أداة موت، وإذا وُظفت في مشروع الأمة، تحولت إلى نبض نهضوي، يضخ في عروقها المعنى، وفي عقولها الحكمة، وفي قلوبها المحبة.

وهكذا نعود إلى العبارة الأولى: (إذا كان محمد كل العرب، فليكن كل العرب محمدًا)، لا بوصفه نبيًا مغلقًا على أتباعه، بل بوصفه رمزًا كونيًا للكرامة، والحرية، والعدل، والثورة على كل استبداد باسم الله أو باسمه. فالدين لله، والثورة للناس، والبعث هو جسر الوعي

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.