
كتب أ. طارق عبد اللطيف ابو عكرمة
اطلعت على الافتتاحية بعناية، ويمكن القول إنها واحدة من أكثر النصوص وضوحًا في الربط بين انهيار المنظومة التعليمية والحرب الدائرة في السودان. التعقيب عليها يحتاج إلى قراءة مزدوجة: قراءة علمية تستند إلى الأرقام والمعطيات، وقراءة فلسفية/ سياسية تحاول أن تضعها في سياق التحولات الكبرى التي يمر بها السودان. أول ما يلفت الانتباه هو أن النص لم يكتفِ بالتشخيص السطحي، بل كشف العلاقة العميقة بين الحرب، والهجرة الجماعية للأساتذة والطلاب، وانعدام الثقة في مؤسسات الدولة. هنا يصبح (عزوف 40% من الطلاب) ليس مجرد رقم، بل مؤشر وجودي يطرح سؤال: ما معنى (جامعة) في بلد تتآكله الحرب؟ وما جدوى الحديث عن مستقبل دون أجيال قادرة على حمل مشروع وطني أو تنموي؟
من الناحية الفلسفية، الافتتاحية وضعت يدها على مفارقة قاسية: السلطة تدّعي أن الحياة طبيعية وأن الامتحانات جرت بنجاح، بينما الواقع يكشف أن الطلاب والأساتذة يفرّون من الوطن، وأن الجامعات تتحول إلى بنايات خاوية. هذه المفارقة تذكّرنا بما يسميه بول ريكور (سردية الإنكار):( حين تبني الأنظمة خطابًا يرفض الاعتراف بالواقع، فينهار الرابط بين المجتمع ومؤسساته) .
أما سياسيًا، فالافتتاحية أحسنت في جعل (نتيجة القبول) ليست مجرد قضية تعليمية بل جرس إنذار وطني. فالتعليم هو المرآة الأكثر صدقًا لسلامة المجتمع، فإذا هجره الناس، فذلك يعني أن الدولة فقدت شرعيتها، وأن الحرب تسير بالسودان نحو تفريغ بشري من الداخل واستبداله بالشتات.
القوة الإضافية للنص أنه لم يترك الأمر عند التشخيص، بل طرح بوضوح أن وقف الحرب (عبر التفاوض) ليس خيارًا أخلاقيًا فقط، بل ضرورة وجودية. هذه النقطة يمكن تعميقها أكثر بالقول إن التعليم هنا يصبح معيارًا لـ(عقد اجتماعي جديد)، فلا معنى للحديث عن ديمقراطية أو تنمية أو وحدة وطنية في غياب مدرسة وجامعة تؤمّن الاستمرارية التاريخية للمجتمع.
وفي هذا السياق، يمكن إبراز ثلاثة أبعاد أساسية:
البعد الأخلاقي: الحديث عن انهيار التعليم في ظل الحرب لا يمكن أن يكون مجرد نقاش إداري أو سياسي، بل هو في جوهره قضية أخلاقية. فالمجتمع الذي يترك أبناءه دون تعليم، إنما يفرّط في أبسط حقوقهم الإنسانية. هنا يصبح الدفاع عن المدرسة والجامعة موقفًا أخلاقيًا يتجاوز الحسابات الضيقة، ويطرح سؤال الضمير، كيف نقبل أن تتحول قاعات العلم إلى أطلال بينما تُهدر الموارد في تمويل الحرب؟
البعد الاستراتيجي: التعليم في أي بلد هو خط الدفاع الاستراتيجي الأول. انهياره يعني انهيار قدرة الدولة على إنتاج الكفاءات وإدارة مواردها، ويعني أيضًا تسليم المستقبل لقوى خارجية ستملأ هذا الفراغ. ما يجري اليوم في السودان ليس مجرد أزمة تعليمية، بل تهديد استراتيجي للأمن الوطني والقومي ذاته. فالأمم لا تسقط بالمدافع فقط، بل تسقط حين تعجز عن إنتاج المعرفة وحماية عقول شبابها من التسرب إلى الجهل أو الهجرة.
البعد القومي: الشعب السوداني اليوم يواجه خطر التفكك، وأحد أبرز تجليات هذا الخطر هو غياب الجيل المتعلم القادر على صياغة مشروع وطني جامع. إذا فقد السودان طلابه وأساتذته، فإن المشروع القومي برمته يصبح مهددًا. من هنا فإن إنقاذ التعليم ليس مطلبًا قطاعيًا يخص الجامعات وحدها، بل قضية قومية تعادل في أهميتها معركة الحفاظ على وحدة الأرض والشعب والامة العربية. ختامًا، الافتتاحية نجحت في أن تجعل من مسألة القبول الجامعي قضية وطنية بامتياز، لكنها تحتاج – لتعزيز أثرها – إلى إضافة بعد مستقبلي: أي كيف يمكن أن يكون إصلاح التعليم أحد مداخل وقف الحرب، وليس مجرد ضحية لها. فالطلاب الذين لم يلتحقوا بالجامعات اليوم، قد يلتحقون غدًا بالمليشيات أو بسوق الهجرة، ما لم تُبنَ رؤية وطنية تجعل من الجامعة (جبهة مقاومة للحرب) بقدر ما هي مؤسسة للمعرفة.
Leave a Reply