الحرية الشخصية والحدود: حتى لا يصبح القبول ذوبانًا (5) أ‌. ابو بكر

صحيفة الهدف

بقلم: أ‌. ابو بكر ضياء الدين أ. طارق عبد اللطيف أبو عكرمة

مقدمة: (في التوازن العسير بين الذات والآخر): ليست الحريةُ انعتاقاً من كل قيد، بل هي الفنُّ العظيم لرسم الحدود التي تحمي كرامتنا دون أن تسجن الآخرين. والقبولُ ليس استسلاماً للآخر، بل هو الاعترافُ بحقه في الوجود المختلف. هذه المقالة تحاول أن ترسم خريطةً لهذا التوازن الدقيق بين حرية الذات واحترام حرية الآخر، بين قوة الشخصية ومرونة التعايش.
1. القبول ليس إلغاءً: (فن الحفاظ على الذات في بحر الاختلاف): تقول القاعدة: (يمكنك أن تغير نفسك ولا يمكنك أن تغيرني). هذه العبارة تحمل إعلاناً لاستقلال الذات، وتذكيراً بأن قبول الآخر لا يعني الذوبان فيه. فكما أن البحر يحتفظ بملوحته رغم مياه الأنهار العذبة، كذلك يجب على الذات أن تحافظ على كينونتها رغم انفتاحها على الآخر. في السودان، نحتاج إلى تمييز دقيق بين:
أ‌. القبول الإيجابي: الذي يعترف بالآخر دون التخلي عن الذات
ب‌. الذوبان السلبي: الذي يضحي بالهوية في محاولة يائسة للاندماج.
فالوحدة الوطنية لا تعني أن يصبح كل السودانيين متطابقين، بل أن يعمل مختلفون متساوون معاً من أجل الصالح العام.
2. الاعتراف بالضعف: (القوة الحقيقية تكمن في القبول بالضعف): تقدم القواعد التالية نظرةً ثورية للضعف الإنساني وكما يلي:
أ‌. (أنا عاجز من دونك).
ب‌. (لولا أنك مختلف لما كنت أنا مختلف).
ت‌. (لا يخلو إنسان من حاجة وضعف).
ث‌. (لولا حاجتي وضعفي لما نجحت أنت)
هذه القواعد تؤسس لـفلسفة الضعف التي ترى أن الاعتراف بالحاجة والضعف ليس عيباً، بل هو:
– بوابة التقارب الإنساني: فالإنسان الكامل لا يحتاج إلى الآخرين.
– مصدر القوة الحقيقية: فالشجرة المرنة تبقى أما الشجرة القاسية تنكسر
– أساس التكامل: فالحاجة المتبادلة هي التي تجمع بين المختلفين
في المجتمع السوداني، نحتاج إلى التحرر من ثقافة (الرجولة الزائفة) التي ترفض الاعتراف بالضعف، وتبني ثقافةً جديدةً تقبل الضعف الإنساني كحقيقة وجودية.
3. تكسير مجاديف غيرك: (المرض السوداني المزمن): تقول القاعدة: (تكسيرك لمجاديف غيرك لا يزيد أبداً من سرعة قاربك). هذه الصورة الشعرية البليغة تختصر تراجيديا الصراع السوداني. فبدلاً أن يتنافس السودانيون على من يبني أفضل، يتنافسون على من يهدم أكثر. هذه الثقافة التخريبية تجلت في:
أ‌. تدمير البنى التحتية أثناء الصراعات.
ب‌. تشويه سمعة أي نجاح لا نشارك فيه.
ت‌. عرقلة أي بناء لا نكون نحن قادته.
هذا السلوك لا يضرّ (الآخر) فقط، بل يضرّ الوطن بأكمله، والقارب الذي نركبه جميعاً.
4. تطوير الذات: (الطريق الملكي لقبول الآخر): تعود هذه القاعدة لتؤكد (تقبل اختلاف الآخر وطور نفسك). هنا تكمن الحكمة العميقة: فقبول الآخر يبدأ من تطوير الذات. فالإنسان الواثق من نفسه لا يخاف من الاختلاف، بل يراه مصدر إثراء. فتطوير الذات يعني:
أ‌. التعرف على نقاط القوة والضعف في شخصيتنا.
ب‌. الانفتاح على تعلم جديد من الآخر المختلف.
ت‌. القدرة على النقد الذاتي دون فقدان الثقة بالنفس.
فالذات القوية ليست التي تنغلق على نفسها، بل التي تفتح نوافذها للهواء النقي للأفكار المختلفة.
5. نحو عقد اجتماعي جديد: (الحرية في إطار المسؤولية): لتحقيق هذا التوازن بين الحرية الشخصية والقبول الاجتماعي، نحتاج إلى:
أ‌. ترسيخ ثقافة الحدود:
– حدود تحمي حرية الفرد دون أن تتحول إلى سجن للآخرين
– حدود تحترم الخصوصية الثقافية دون أن تتحول إلى عزل عنصري
ت‌. بناء مؤسسات تحمي التنوع:
– مؤسسات قانونية تحمي حقوق الأقليات
– مؤسسات ثقافية تعترف بالتعددية وتحميها
ث‌. تطوير خطاب وطني شامل:
– خطاب يعترف بالاختلافات ولا يخفيها
– خطاب يبني على المشتركات دون أن يلغي الخصوصيات.

خاتمة: (من ثنائية الصراع إلى جدلية التكامل): الحرية الشخصية وقبول الآخر ليسا نقيضين، بل هما وجهان لعملة واحدة، وكرامة الإنسان. فكما أن الحرية دون مسؤولية تعتبر فوضى، فإن القبول دون حدود يصبح ذوباناً.
السودان، بتنوعه الفريد، مؤهل لأن يكون نموذجاً للتعايش بين حرية الذات وتعددية المجتمع. لكن هذا يحتاج إلى شجاعة للاعتراف بأن قوتنا تكمن في اختلافنا، وليس في تشابهنا.
فهذه القاعدة تختصر هذا الرؤية: (تكسيرك لمجاديف غيرك لا يزيد أبداً من سرعة قاربك). فإما أن نجدّف معاً إلى بر الأمان، أو أن نغرق جميعاً.
بهذه المقالة الخامسة تكتمل سلسلة (جسور)، متمنين أن تكون قد أسهمت في بناء جسور التفاهم بين كل السودانيين.

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.