
أ. ابو بكر ضياء الدين
أ. طارق عبد اللطيف أبو عكرمة
مقدمة: (في البحث عن الذات عبر عيون الآخر: (ليست الهويةُ مرآةً نرجسيةً نعجب فيها بأنفسنا، بل هي مرآةٌ نرى فيها انعكاسَنا في عيون الآخرين). (نظرية المرآة) التي نطرحها هنا ليست نظريةً أكاديميةً مجردة، بل هي منهجٌ وجوديٌّ لفهم العلاقة الجدلية بين الأنا والآخر، بين الذات والهوية الجماعية. في هذه المقالة، نغوص في الأعماق النفسية والاجتماعية للعلاقات الإنسانية، وكيف يمكن أن تكون مفتاحاً للخروج من المأزق السوداني الراهن.
1. القاعدة الذهبية: (عاملني كما تحب أن أعاملك): هذه القاعدة هي ليست مجرد وصية أخلاقية، بل هي قانون نفسي- اجتماعي عميق الجذور. فالبشرية لم تكتشف بعد قاعدةً للتعايش أفضل من هذه. هي تعبر عن مبدأ المعاملة بالمثل الذي يشكل أساس العقد الاجتماعي في أي مجتمع متحضر. عندما نطبق هذه القاعدة في السودان، فإننا نحل إشكالات عديدة:
أ. لا يمكن للذي من الشمال الجغرافي للسودان أن يطالب بحقوقه إذا كان ينكر على الذي بجنوب السودان الجغرافي حقوقه.
ب. لا يمكن للمسلم أن يطلب الحرية إذا كان يقيد حرية المسيحي.
ت. لا يمكن للرجل أن يطالب بالاحترام إذا كان ينتقص من كرامة المرأة.
هذه القاعدة تذكّرنا بأن ( الكرامة الإنسانية وحدة غير قابلة للتجزئة)، وأن انتهاك كرامة الآخر هو انتهاك صارخ لكرامتنا الذاتية.
2. من منطق التطابق إلى فلسفة التكامل: القاعدة التالية (اقبلني كما أنا حتى أقبلك كما أنت) تقدم رؤيةً ثورية للعلاقات الإنسانية، فهي تحمل ثورةً ضد ثقافة الإقصاء والتذويب. فالقبول لا يعني الموافقة على كل شيء، بل يعني الاعتراف بالحق في الاختلاف. في العلاقة الزوجية، تقول القاعدة بأن (زوجتك أو زوجك وجه مقابل وليس مطابقا لك)، وفي العلاقة الأبوية، تقول القاعدة أن (ابنك ليس أنت وزمانه ليس زمانك).
هذا المنطق التكاملي يعترف بأن الاختلاف ليس عيباً يجب إصلاحه، بل هو ثراء يجب استثماره. فكما أن اليدين مختلفتان لكنهما تتكاملان في العمل، وكما أن ألوان اللوحة المختلفة تزيدها جمالاً، كذلك البشر مختلفون لكنهم يتكاملون في بناء المجتمع.
3. (أنت جزء من كل): نحو هوية سودانية جامعة تقول القاعدة، (أنت جزء من كلّ في منظومة الحياة)، هذه العبارة تحمل تصوراً عضوياً للمجتمع، حيث يكون الفرد جزءاً لا يتجزأ من الكل، والكل موجود في كل جزء. في السودان، نحتاج إلى بناء هوية جامعة تستوعب التنوع لا تلغيه، هوية تقوم على:
أ. الاعتراف بأن كل مجموعة إثنية أو ثقافية هي جزء أصيل من النسيج الوطني
ب. التفاعل الإيجابي بين هذه المكونات في إطار المساواة والعدالة
ت. التكامل الوظيفي حيث يخدم كل مكون المصلحة الوطنية العامة
هذه الهوية لا تلغي الخصوصيات، بل تجعلها لبناتٍ في صرح الوطن الكبير.
4. (من التنافر إلى التناغم): السودان كلوحة فنية): القاعدة تقول: (اختلاف الألوان يُعطي جمالاً للّوحة. (السودان هو لوحة فنية كبرى، تجمع ألواناً متعددة: العربي، الأفريقي، المسلم، المسيحي، البدوي، الحضري… المشكلة ليست في تعدد الألوان، بل في عجز الفنان عن توظيفها في لوحة متناغمة. كيف نحول التنافر إلى تناغم؟
أ. بالاعتراف بجمال كل لون على حدة
ب. بفنّ مزج الألوان في تناسق جميل
ت. برؤية اللوحة ككلّ متكامل، لا كمجموعة بقع لونية منفصلة
5. (الاعتراف بالضعف، بوابة التقارب الإنساني) هذه القواعد تقدم رؤيةً عميقة للضعف الإنساني:
أ. (لولا حاجتي وضعفي لما نجحت أنت).
ب. (أنا لا أرى وجهي لكنك أنت تراه).
ت. (إن حميت ظهري أنا أحمي ظهرك)
هذه القواعد تؤسس لاقتصاد عاطفي جديد، قائم على الاعتراف بالحاجة المتبادلة، لا على ادعاء القوة المطلقة. فالإنسان كائن ناقص بطبعه، يحتاج إلى الآخر ليكمل نقصه. هذا الاعتراف بالضعف ليس عيباً، بل هو قوة جاذبة تقرب بين البشر وتذيب حواجز الكبرياء الزائف.
خاتمة: (نحو أنطولوجيا جديدة للعلاقات): (نظرية المرآة) التي قدمناها هنا ليست مجرد مجموعة نصائح، بل هي رؤية فلسفية للعلاقات الإنسانية، تقوم على:
أ. الاعتراف بالآخر المختلف
ب. القبول بالتكامل لا التطابق
ت. الاعتراف بالحاجة المتبادلة
ث. البناء على التنوع لا على التجانس
السودان، بتنوعه الفريد، مؤهل لأن يكون نموذجاً للتعايش الإنساني، لكن هذا يحتاج إلى شجاعة للاعتراف بالذات في مرآة الآخر، وبالآخر في مرآة الذات.
في المقالة القادمة، سننتقل إلى البعد الاقتصادي- الأخلاقي: (اقتصاد العلاقات: من التنافس إلى التكامل).
Leave a Reply