عبث الجنرالات إلى كارثة وجودية: بلد يتفكك على الهواء مباشرة

صحيفة الهدف

م. عبدالمنعم مختار

في السودان، يبدو أننا لم نعد بحاجة إلى مدارس، جامعات أو مراكز بحوث لندرس معنى كلمة كارثة، فالبلاد صارت هي نفسها المعجم الحي للتفكك والانهيار. من لم يفهم “الحرب العبثية” التي تحدث عنها المهندس عادل خلف الله الناطق الرسمي باسم حزب البعث في ندوة التنسيقية النسوية الموحدة بتاريخ 27 يوليو، فما عليه إلا أن يفتح نافذة منزله – إن بقي له منزل- لينظر مباشرة إلى مسرح العبث السوداني المفتوح.

الحرب هنا ليست نزاعا مسلحا عاديا؛ إنها ورشة عمل كبرى في إعادة تعريف الموت، وتوزيع الجوع، وتصدير النزوح. خلف الله حذر قائلاً إن السودان دخل في “حلقة مفرغة ثلاثية الأبعاد من الانهيار الاقتصادي والاجتماعي والبيئي”. يا سلام يا ابو خلف علي الوضوح في اللغةوالمعني… ثلاثية الأبعاد.

خذوا الأرقام التي ساقها الرجل: 150 ألف وفاة، 30.4 مليون محتاج للمساعدات، 15 مليون نازح. وجنيه فقد أكثر من 400% من قيمته. لو كانت هناك جائزة عالمية لسرعة الانهيار، لكان السودان قد نالها ب”الإجماع السكوتي”. أما عن التضخم الذي قفز إلى 245%، فهو مجرد تدريب بدني لجيوب المواطنين استعدادا للركض نحو الفقر المدقع الذي شمل 71% من السكان.

ولم يكتفِ خلف الله بالحديث عن الواقع المعاش وسط الجوع والموت، بل ذهب بنا إلى “الجريمة البيئية الصامتة”، حيث السيانيد والزئبق يتسابقان في تلويث نهر النيل، والفشل الكلوي يقفز بنسبة 400%. بلدنا الحبيب صار مختبرا مجانيا لتجارب السموم الدولية، لا ينقصه سوى لافتة: “مرحبًا بكم في جمهورية التلوث المتحدة”.

أما على المستوى الاجتماعي، فالحرب أبدعت في تفكيك الأسر وتمزيق النسيج المجتمعي، ووزعت “الفقر والإدمان والعنف الأسري” كوجبات إجبارية على الناس. الأطفال صاروا بلا مدارس ولا مأوى، والشباب بلا أفق، والمجتمعات بلا مرجعيات، كأن السودان تحوّل إلى مختبر حيّ لتجريب أمراض التفكك الاجتماعي على أوسع نطاق. هنا لا تجد إلا أن تردد ما قاله خلف الله بمرارة: “الحرب في السودان لم تكن محلية بحتة، بل تحولت إلى ساحة لتنافس إقليمي ودولي”.

وفي النهاية، إذا كان لا بد من نصيحة أخيرة، فهي: لا تراهنوا على هذه الحرب لتنجب دولة، فهي لا تلد إلا أيتاما وجوعى ومشردين. وكما قال خلف الله، لا بد من “استعادة الذاكرة المشتركة”، لكن قبل ذلك، لا بد من إيقاف هذا السيرك الدموي الذي يديره الجنرالات. فالسودان اليوم يشبه مسرحية هزلية سيئة الإخراج: المشاهدون يبكون بدل أن يضحكوا، والستار لا يُسدل أبدا الا باستنهاض القوى الحية  وتوحدها وتنفيذ رؤية واضحة متفق عليها من  الجميع.. أوقفوا إطلاق النار .. أوقفوا الحرب.. استعيدوا مسار الحكم المدني… الجيش لثكناته… لا لحمل السلاح عشوائيا… لا لحمل الأوهام علي أكتاف البنادق، بلدنا لا يحتاج إلي مزيد من الرصاصْ، يحتاج لجرعة وعي وذاكرة لا تباع في مزادات السياسة، لا تحملوا الخراب كقدر محتوم، فالتاريخ لا

يحترم من يكتب نهايته بمدافع الهاون.

كفى … كفى.. كفى.. كفاية بلادنا تستحق مشهد غير، لا يكون فيه الدم هو المستحوذ على كل شئ.

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.