حين يتكلم الضوء بالعتمة

صحيفة الهدف

فيصل شرير
#ملف_الهدف_الثقافي
الغوص في عالم التشكيلية نجوى يعقوب محفوف بالمخاطر، مربك. ومن المؤكد ليست هنالك أي ضمانة لأن تنجو من الافخاخ المنصوبة على طول خطوط اللون المنعرجة والمختبئة ما بين ضربات الفرشاة وتدرج الخطوط، لا يمكنك الفكاك من متعة الاندهاشة والتواري خلف مقعدك، كأن تقول إنك ركضت ما فيه الكفاية، وحان تمام الوقت لأن تستعيد أنفاسك، لا ضمانة البتة لاستعادة تلك الزفرات التي انفقتها وأنت تلهث صعوداً وهبوط في مراقبة تشابك الألوان، لعبة الضوء والظل، المتضادات، وبينما أنت في نزهتك تلك قد يفاجئك الظل وهو ياخذ قيلولته تحت زمهرير الضوء، اللهاث خلف الأفكار أمر لا يخلو من المتعة. متعة التلصص على الأفكار التي تم نسج سعفاتها من تمام الظل، وانفتاح الضو نحو الفراغ الكائن ما بين عالم الإنسان والحيوان.
في ظني الغافل مني أن المنعطفات التي تتشكل عبرها المواقف هي في الغالب ما تضع علاماتها الفارقة على طريقة تفكيرنا، وهي التي في الغالب أيضًا تقودنا نحو الحياة التي نرتضيها، ولا نعد نقبل غيرها..
دقة الضربات المرسومة بعناية تشي في نفسي تلك الأحاسيس الغائمة ما بين الحقيقة، العرف، الله، الدين، الاستقامة، الذنب، الخيانة، العشق، فانت لا يمكنك أن تتجاهل حزمة المشاعر المتناثرة على سطح اللوحة دون أن تفكر في الصيرورة التي ينتهي إليها العالم، فلاشيء في هذا العالم يعدل العدل، ربما تكون رحلة البحث عن العدالة مضنية ولا ضمانة البتة بحصولك عليها، قد تقضي العمر كله وأنت تحاول إثبات أحقيتك فيها، ومع ذلك قد تعود إليك خالي الوفاض، وأعني جراب محاولاتك المضنية تلك. ربما نعشق حتى آخر رمق، ومع ذلك قد يكون الجنون هو محصلة ما يؤول إليه ذلك العشق، المحبوب الذي لا نحصل عليه هو أفضل من ذاك الذي يبادلنا العشق، ومع ذلك تخذلنا خيانته، ذلك كسر لا يمكن الحصول بسهولة على طريقة نجبره بها، فالله موجود ومع ذلك ربما لا نعرف كيف نثبت ذلك، فالحقيقة دائمًا ليست مطلقة، طالما أننا لا نستطيع قياس الحواس ولا نتلمس معايير للجمال، أو لماذا نعشق بجنون، أو حتى نكره.. بينما تبقى المسلمات غير دقيقة في تواصيف ظاهرة ما.
قد نعرف لما نتألم، لكن قد لا نعرف لماذا نحن لسنا سعداء.. وعلى الرغم من أن الأسد يقوم باحتضان شبله دون أن يعير أنثاه نظرة حتى وإن كانت قريبة منه كفاية، للحد الذي يمكنه فيه أن يمد فقط نظرته مسافة إلتفاتة.. كأنما ما يحدث هو لحظات اختيار، هو صراع إثبات للذات بين الأنثي المشغولة بإحصاء خسائرها/ مكاسبها، أو حتى ترتيب أولياتها للخروج في معركتها التالية بانتصار يعزز كرامتها/ وجودها بينما الخطر يتهددها، فهي منفتحة على الحياة بكل صعابها، لكنها مهزومة من الداخل، فكما هو الضوء من الداخل إلى الخارج، يبقى كذلك السلام من الداخل إلى الخارج، ومع ذلك يمكننا أن نتصور أن جمال اللوحة يكمن في ترميز الصراع ما بين المتضادات، فالضوء يتكاثف حينما يتعاظم دور العتمة، في الوقت الذي يمكننا فيه التعايش/ التناغم حتى وقت جريان الأحداث الجثام، طالما أننا رغبنا في اقتناص بقعة الضوء تلك. فالسلام القائم ما بين الفتاة والأسد هو سلام هش، يمكن أن ينهار في لحظة، ومع ذلك تنقلنا التشكيلية نجوى إلى الزاوية التي من خلالها يمكنها أن تؤسس لشكلانية الصراع، صراع الأضداد المرتكز على الاختلاف.. خلاف الأطباع، المظاهر التي قد تقود إلى الحسابات الخاطئة التي تنتج عنها خسائر فادحة لا يمكن الخروج منها بسلام.
لكن يبقى الصراع الصوري أو الشكلاني هو صراع قد يفرضه ظرف ما، سرعان ما ينتهي إلى وفاق، فالصراع الذكوري/ الأنثوي بين المرأة الجالسة في جسارة خلف الأسد وهي ترعي أفكارها، متحدية بصورة حادة العالم الذكوري برمته الذي يمثله الأسد، في غياب تم لأحد الرمزين، الأنثي وحيدة دون شريكها، والأسد وحيد في حضن شبله دون لبوته. وفي الحالتين تريد أن تخبرنا نجوى أن المرأة هي الخاسرة.. فالفراغ المملوء بالضوء والقائم بين العالمين، العالم الذكوري والأنثوي، يمثل الرئة التي تتنفس من خلالها الأنثي دون خوف حتى أو وجل.
فاللون الأحمر قادر على خديعتك، توزيعه الأنيق على سطح اللوحة يتبدى لك كأنه الغالب، ومع ذلك يبقى اللون الأرزق على كل تدرجه هو الأشمل، فهو يمثل التوازن والهدوء والارتياح، في الوقت الذي يصرخ فيه الأحمر معلنًا (تمرد) الأنثي، حينما تُجبر او تُضَعْ على المحك، أو حتى عند مجرد محاولات إقصاءها من الحياة، تبقى قادرة على مجابهة الموت دون خوف أو حتى رعب. قليل من الضعف ممكن، لكن القوة كامنة في دواخلها، والصبر.
فالأزرق في إحدى تدرجاته يمثل مشروع الصبر الذي يتمدد عبر الضعف. الجسارة والصمود هي السمة الغالبة التي أرادت نجوى تصوير لحظاتها حينما يكون الخوف هو سيد الموقف، فلا يمكنك أن تهرب من مصيرك لمجرد أنك لا تريد أن يحدث ذلك، فالتحدى هو السبيل الوحيد لاجتياز أي اختبار نمر به في الحياة. قد يحدث وأن نكون مضطرين لاتخاذ قرارات خطيرة في رقعة حياتنا، كالتواجد رفقة (مفترس) يحيل حياتنا إلى فوضى، ومع ذلك يمكنك أن تتصالح مع الخطر بالخوف لكن دون أن تنسي أن الخوف هو دافع لأن نحافظ على كينونتنا، التظاهر أو الإيمان بأن الخوف لا يعرف سبيله إلى قلبك هو العدو الأكبر الذي حتمًا سيقصم صمودك. فالفراغ الصارخ بالضوء يمثل قبول التحدى، والسكون يعني التوازن. واللون البرتقالي يعني الرضا على مضض بواقع تم فرضه.. قد تكون هي العادات وقد يكون هو العادة، عادة أن نقبل مضطرين بأمر ما، ضد رغباتنا وحتى خارج خياراتنا. لكن الحياة والتي يمثلها الأصفر رغم حرارته رفقة الأحمر القاني، إلا أن الأزرق بكل تدرجاته يمثل الارتياح والسلام الداخلي والحكمة. فالمنعطفات الخطرة التي نجتازها غالبًا ما تكون هي بحكمتنا وإدارتنا للأمور باتزان وعقلانية، بعيدًا حتى عن ما يريده القلب، أو حتى رغباتنا ا لشخصية. نحن محكومين في الغالب بقوانين وحمولات تعبث بها الرغائب ونائبات الدهر، والشريك الذي قد يكون ولدًا أو حتى زوجًا. على ذلك تبقى التشابك والتعرجات لخطوط الريشة هي إنكسار القلب ونزيف المشاعر الإنسانية، خاصة تلك التي ينتجها القلب.. فالعشق خارج المدار يبقى منجاة، ومهلكة.

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.