الثقافة والفن: نسيج الوحدة وسرّ اللحمة الاجتماعية

صحيفة الهدف

طارق عبد اللطيف أبو عكرمة
#ملف_الهدف_الثقافي
ليست الثقافة مجرد تراثٍ نحمله في المتاحف، ولا الفن مجرد ألوانٍ نزين بها الجدران. إنهما الدم الذي يجري في عروق الأمة العربية، والنبض الذي يوحّد قلوب أبنائها، والخيط الخفي الذي ينسج تنوعنا في لوحة واحدة تسمى الهوية. في زمن تحاول فيه رياح التفتيت أن تقتلع جذورنا، وتغيب شمس وحدتنا، تبرز الثقافة والفن كحصن منيع يحفظ كينونتنا، وكسلاح ناعم يذيب حواجز الخوف والجهل بيننا.
في السودان، حيث تلتقي روافد إفريقيا والنيل والعروبة، يشكل التنوع الثقافي نسيجاً فريداً يروي حكاية وطن تعددت ألوانه وتوحدت روائعه. فالأغنية السودانية التي تخرج من أعماق الريف النوبي لتطرب لها أذن في الخليج، واللوحة التشكيلية التي ترسم مآثر الثوار في دارفور لتعبّر عنها فرشاة فنان من الجزيرة، والقصة القصيرة التي تحكي معاناة أهل كردفان ليقف عندها قارئ في المغرب، كلها شواهد على أن الفن لغة لا تحتاج إلى ترجمان، وأن الثقافة جسر لا يعرف حدوداً.
لكن هذا التنوع الذي منحنا إياه القدر هبة ومسؤولية، أصبح اليوم في مهب الريح. فالحرب التي أشعلت نار الفتنة، والإعلام الذي راح يضخم الخلافات ويطمس المشتركات، والجهل الذي زرع جداراً من الغربة بين أبناء الوطن الواحد، كلها عوامل تهدد بتمزيق هذا النسيج الجميل. وهنا يأتي دور الثقافة والفن كطوق نجاة، بل كبوصلة توجه سفينتنا إلى بر الأمان.
فالفنانون والمبدعون هم حراس الذاكرة الجمعية، وحراس الضمير الوطني. بأغانيهم يحيون أمجاد أجدادنا، وبرواياتهم يحكون حاضرنا، وبلوحاتهم يرسمون مستقبلنا. هم من يستطيعون أن يحولوا التنوع من مصدر للصراع إلى مصدر للإبداع، ومن سبب للفرقة إلى سبب للقوة. فلوحة واحدة تجمع ألواناً مختلفة لترسم وجهاً سودانياً، هي رسالة أقوى من أي خطاب سياسي عن الوحدة.

ولا يقتصر دور الثقافة على الجانب المحلي فحسب، بل يتعداه إلى ربط السودان بمحيطه العربي. فالأمة العربية اليوم بأمس الحاجة إلى إعادة اكتشاف روابطها الثقافية، بعد أن فشلت المشاريع السياسية في جمع شملها. والسودان، بموقعه الجيوثقافي الفريد، يمكن أن يكون جسراً يربط مشرق الشعب العربي بمغربه، وأن يكون حلقة وصل بين إفريقيا والوطن العربي. فليست العروبة دماءً تجري في العروق، بل هي ثقافة تتسع للجميع، وحضارة تثرى بتنوعها.
إن الاستثمار في الثقافة والفن هو استثمار في الإنسان، وفي مستقبل الأمة العربية. وهو ليس ترفاً، بل ضرورة وجودية لبناء جيل يعتز بانتمائه، ويقدر تنوعه، وينفتح على محيطه. جيل يقرأ الشعر العربي ويفخر بالأمثال السودانية، ويستمع إلى أم كلثوم ويطرب لشارع الستين، ويمارس الرقصة النوبية ويعجب بالدبكة الشامية. جيل يرى في التنوع مصدر قوة، وفي الاختلاف سبب غنى.
فليكن الفن لغة حوارنا، والثقافة هوية انتمائنا، والجمال طريق وحدتنا. فلنصنع من ألوان تنوعنا لوحة واحدة، تروي للعالم أن الأمة العربية التي تعددت ألوانها لا تفنى، والتي توحدها الثقافة لا تقهر

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.